تجربة سنغافورة في تعليم التفكير الناقد

تعد تجربة سنغافورة في مجال تنمية مهارات التفكير الناقد نموذجاً ينبغي التوقف عنده، حيث أصبح تعليم التفكير ركيزة أساسية لإصلاح التعليم وتطويره وهدفاً أساسياً من أهدافه، وقد استفادت سنغافورة في وضع خطط هذا النوع من التعليم مما تبلورمن اتجاهات تربوية وتم استحداثه من استراتيجيات تعليمية في مجال تعليم التفكير الناقد وتنمية مهاراته.


يعود اهتمام سنغافورة بهذا النوع من التعليم إلى عام 1997، وهو العام الذي عقد فيه المؤتمر الدولي السابع للتفكير في سنغافورة وحضره 2400 ممثل لحوالي 42 دولة من مختلف بقاع العالم.

في هذا المؤتمر طرح رئيس الوزراء السنغافوري جوه شوك تونغ مبادرته لتطوير التعليم في سنغافورة تحت شعار “مدرسة تفكر… وطن يتعلم” وطالب من خلال كلمته في هذا المؤتمر المسئولين عن التربية في بلاده أن يعيدوا النظر في دور المؤسسات التربوية ودور المعلمين إزاء الطلبة المتعلمين، وأن ينتقلوا بمفهوم التربية من التلقين المعتمد على قدرات التذكر والحفظ إلى تعليم الطلبة مهارات التفكير والاتجاه نحو التعلم والتقصي الذاتي، مبيناً أن تقدم الوطن إنما هو مرهون بتقدم المواطن، وتقدم المواطن لا يتحدد بمدى ما حصله من معارف أو نجح فيه، وإنما بمدى تمسكه بمواصلته التعلم وقدرته على التفكير لاتخاذ القرارات المناسبة في التعامل مع ما يواجهه من عوائق ومشكلات في حياته اليومية، والمواطن ليس مطالباً فقط بالتكيف مع الأحداث المحيطة به، بل عليه صنع وتشكيل و صياغة مستقبل بلاد أيضاً بما يتواكب مع التطورات العلمية والاقتصادية العالمية ، ولكي يعد المواطن لذلك، لابد أن يتعلم مهارات التفكير لكي تساعده وتعضده في تحقيق هذا الهدف.

(سنغافورة دولة آسيوية تقع مابين المحيط الهندي غرباً وبحر الصين شرقاً، يبلغ عدد سكانها حوالي 2,886 مليون حسب إحصائيات 2002 ،وقد حققت هذه الدولة نجاحات ملحوظة في المجالين الاقتصادي والصناعي في السنوات الأخيرة، ويعد النظام التعليمي في سنغافورة من أفضل النظم التعليمية على مستوى العالم، كما حقق طلابها أكثر من مره مراكز متقدمة في مسابقات (أولومبياد) العلوم والرياضيات العالمية).

وقد كان لهذا النداء وقعه وصداه، حيث أبدت الأوساط التربوية في سنغافورة اهتماماً كبيراً به، وتولد عن هذا الاهتمام اتجاهاً لتطوير مناهج التعليم وتوجيهها للارتقاء بمهارات التفكير لدى المتعلمين من خلال ما يلي :

1- تقليص المواد الدراسية والتخفيف من أعباء المعلم التدريسية لإتاحة فرصة أكبر لممارسة الأنشطة الصفية التفاعلية مع الاهتمام بتعليم الأساسيات في المراحل الأولى من التعليم والتركيز على التخصص في المراحل المتأخرة.

2- الاهتمام بتوفير مناخات مدرسية ميسرة للتعلم وجاذبة للمتعلمين ومعززه لعادة مواصلة التعليم.

3- التركيز على تنمية مهارات التفكير وقدرات التواصل الفعال والعمل الجماعي من خلال ما يقدم من مناهج وأنشطة صفية ولا صفية.

4- توظيف تكنولوجيا التعلم والاستفادة منها بقدر المستطاع في مختلف أوجه العملية التعليمية.

5- إعادة تصميم وسائل القياس والتقييم لتقيس مدى قدرة المتعلم على استيعاب وتطبيق وتطوير ما تعلمه، لا على قدرته على الحفظ والتذكر والاستظهار كما كان يحدث في السابق .

وفي إطار هذه المحاولات المستمرة للارتقاء بنوعية التعليم أخذ الاهتمام التفكير الناقد يشغل حيزاً متنامياً في خطط التطوير، ولعل ما عضد هذا التوجه وأدى إلى الاستمرار فيه ، ما توصلت إليه الدراسات العلمية من نتائج مفادها :

1- أن تعليم التفكير لا يشكل مشكلة بل هو أمر ممكن التحقيق.

2- أن أنواع التفكير يمكن تدريسها بفاعلية.

3- أن جميع الموضوعات مناسبة للتفكير إذا قدمت ضمن سياق مناسب.

4- أن كل المتعلمين وبصرف النظر عن خلفياتهم وقدراتهم الاستيعابية قادرون على تعلم التفكير.

وبدى الاهتمام بتعليم التفكير الناقد واضحاً فيما بذل من جهد لتطوير محتوى التعليم ومناهجه وطرائقه وأساليبه وأدواته وتحديث التقنيات التربوية والوسائط المتعلقة بإدارة ذهن المتعلم واستغلال أقصى قدراته.

ونظراً لأن التفكير الناقد لا ينمو من فراغ، إذ انه لابد من توفر المناخ الذي يؤدي إلى اكتسابه وتنميته ثم ممارسته، كانت الدعوة له بالتدريب من خلال مواقف حياته تفاعلية، ووجهت المدارس لتبني استراتيجيات تستثير التفكير وتساعد على تنمية مهاراته، وتهيئ الأجواء لممارسة أنشطة وتدريبات تتحدى فكر المتعلم وتستدعي استخدام عمليات عقلية كالتحليل والتركيب والنقد والمقارنة بهدف الارتقاء بتفكيره إلى مستوى يعلو عن مستوى ممارسة الأنشطة الدنيا للتفكير كالحفظ والتذكر، وتم إدخال هذا المنحى عبر وسائط محددة مثل المواد والأنشطة الصفية واللاصفية بغية أن يصبح التفكير موضوعاً معايشاً وخبرة مألوفة يمارسها المتعلم في كل موقف يواجهه، وأصبح تعليم التفكير الناقد تبعاً لذلك هدفاً مصاغاً تتبناه السياسات التربوية ويدفع إلى تحقيقه المعلمون ويشجع على ممارسته المتعلمون ، كما عدلت الجامعات السنغافورية منذ عام 2004 من شروط قبولها، وأصبح من ضمن هذه الشروط ضرورة اجتياز المتقدمين لدخول الجامعة لاختبارات تقيس قدراتهم ومهاراتهم على التفكير والاستنتاج والتحليل.

ويتم تعليم مهارات التفكير الناقد لكل الطلاب وبصرف النظر عن مستوياتهم الاستيعابية وذلك من منطلق الاعتقاد بأن لكل فرد استعداداته الفردية القابلة للتطور، وبحيث تنمو هذه المهارات بشكل متدرج يتناسب مع النمو في جوانب الشخصية الأخرى، وعادة ما يتم تعليم المحتوى المعرفي ومهارات التفكير في وقت واحد من خلال ما يعرف بالأسلوب التكاملي في تعليم التفكير، بحيث تمثل مهارات التفكير المراد تعليمها جزءاً من الحصة الدراسية المعتادة ويصمم المعلم درسه وفق المنهج المقرر ويضمنه المهارة التي تتناسب مع محتوى الدرس.

ويحدث التعلم في بيئة تعليمية غنية بمصادر التعلم، تتمركز حول الطالب وتثير التفاعل وتحفز على التفكير والمحاكمة، ويستخدم المعلم في الصف استراتيجيات في التدريس بعيدة عن الأطر التقليدية المتعارف عليها، حيث يلجأ إلى تنظيم جلوس الطلاب في الصف وتقسيمهم على شكل مجموعات للنقاش والحوار حول إنجاز مشروع أو حل مشكلة، كما يقوم بتوجيه أسئلة مفتوحة استفسارية تستثير ذهن المتعلم وتستدعي التحليل والمقارنة والاستنتاج، والمعلم هنا لا يحتكر وقت الحصة ولا يعطي أحكاماً كابحة للتفكير بل يحث المتعلمين على التأمل ويشجع المشاركة والتفاعل الصفي.

وبالرغم من أن جهد المعلم لا يشكل إلاّ جزءاً من كل في العملية التعليمية، فالمعلم كما هو معروف لا يستطيع تنفيذ كل ما يطلب منه إلاّ إذا توفر له المناخ المؤازر والإمكانات الداعمة والوقت الكافي، إلاّ أنه وبالرغم من كل ذلك يظل هو الوسيط الرئيسي والمهم في تزويد الطلاب بالمعارف والخبرات والمهارات المطلوبة، حيث أن مدى فهم الطلاب لما يتعلمونه واستيعابهم له وقدرتهم على تطبيقه إنما هو مرهون بما يبذله المعلم من جهد وما يستخدمه من أساليب واستراتيجيات في حجرة الصف، ومن منطلق أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن معلم السياقة على حد قول أحد الباحثين لا يمكن أن يدرب غيره على السياقة قبل أن يتعلم هو هذه المهارة ، فقد وجد أن نقطة البداية إنما تكمن في تنمية المعلم ذاته وذلك من خلال تهيئته وتزويده بالمعارف والمهارات والاستراتيجيات الضرورية لتعليم التفكير الناقد، وقبل ذلك تنمية ميول واتجاهات إيجابية لديه نحو تعلم وتعليم هذا النوع من التفكير، مما يسهم في صقل مهاراته والارتقاء بقدراته في التحول في أساليبه التدريسية من الطرق التقليدية المعتمدة على الحفظ أو التلقين إلى طرق أكثر حداثة ذات منحنى توجيهي تطبيقي تعزز قدرة المتعلم الذاتية على الاستكشاف والتحليل ومواصلة الاطلاع في إطار من التعاون والتنسيق والتفاعل مع الآخرين .

موقع الدكتور سعود عيد العنزي

Image

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

آخر الإضافات