
إنَّ المتتبِّع لمسيرة التعليم، وما تقدِّمه المنظَّمات العالميَّة من مُؤشرات حَوْلَ تنمية المعرفة كأحد أهم أضلع تطور الدول ونماء اقتصادها، يلحظ أنَّ هذا المسار يسير ببطء شديد، بل يوصف أحيانًا بالحراك شِبه المنعدم. فبناء منظومة التعليم تتطلب جهدا فكريا وماليا كبيرين، إضافة إلى تطوير كثير من القرارات السياسيَّة لخدمة هذه المؤسَّسة وهذا العنصر الحيوي، كما يتطلب إصلاحًا اجتماعيًّا وثقافيًّا حقيقيَّين يَخَالهمَا التوافق بَيْنَ المؤسَّسات الرسميَّة والمُجتمع المَدني. فالعالم اليوم يتحدث بقوَّة الاقتصاد والَّذي لا يتأتَّى إلَّا بجودة التعليم وانتهاج سياسة تطبيق «اقتصاد المعرفة» بكُلِّ ما يحمله هذا المفهوم من دلالات حقيقيَّة، وحتَّى لا نغرِّد خارج السِّرب ونُتَّهم بالمبالغة في وضع صورة سوداويَّة حَوْلَ سلحفائيَّة تطور التعليم في بلادنا الغالية بشكلٍ خاص والعالم بشكلٍ عام.
تظهر مؤشِّرات «التقرير العالمي عن المُعلِّمين 2024: معالجة النقص في أعداد المُعلِّمين وتحويل مهنة التعليم»، و»التقرير العالمي لرصد التعليم 2024/2025: القيادة في التعليم ـ القيادة الجيِّدة من أجل تعزيز التعلُّم» الصادرين عن اليونسكو تراجعًا كبيرًا في تنمية التعليم بالعالم؛ ويعزى ذلك إلى جملة من المسبِّبات الرئيسة، ومنها زحزحة المُعلِّم عن الحجر الأساس الَّذي يَجِبُ أن يكُونَ فيه وهو أساس العمليَّة التربويَّة، وقد دعا التقرير إلى ضرورة تحرير طاقات المُعلِّمين وضرب مثالًا على ذلك في جمهوريَّة كوريا الَّتي منحت المُعلِّمين ذوي الخبرة أجورًا وحوافز مضاعفة عن بقيَّة زملائهم في سبيل التنافس في الأداء والابتكار. ودعا التقرير إلى أهميَّة توفير الكادر التدريسي المجزي في جميع المدارس بصورة تُسهم بدرجة فاعلة في تحقيق فلسفة التعليم الوطنيَّة، وضرورة اجتذاب المُعلِّمين في الحقل التربوي من خلال التدريب والتأهيل وتجديد مداركهم ومعارفهم ومهاراتهم، وانتقاء نوعيَّة المشرفين بحيثُ يكتسب المُعلِّمون منهم خبرات عصريَّة ومعلومات حديثة، لا أن تقتصر مهامهم كمفتِّش وباحث عن السلبيات والقصور والجانب السلبي، والأهميَّة القيميَّة نَحْوَ تحقيق الاستقرار النفسي والوظيفي للمُعلِّم من حيثُ مكان العمل وطبيعة الحوافز؛ فوضعه في صورة مبهمة حَوْلَ فترة بقائه في الغربة بعيدًا عن أُسرته لخمسة أعوام قابلة للزيادة وإعادة توزيعه بَيْنَ فترة وأخرى يبعث في نفسه نوعًا من البؤس والضجر وفقدِ الشَّغف بالتدريس والإبداع.
إنَّ اعتمادَ هيكل تحفيزي تنافسي في السلك التدريسي مهمٌّ جدًّا لبثِّ روح التنافسيَّة والجديَّة والابتكار نَحْوَ خطط تدريسيَّة حديثة، وتقديم برامج تعليميَّة رائدة، بَيْنَما وضع المُعلِّم في قالب محدود بأنَّك ستظلُّ على ما أنْتَ عليه حتَّى الموت أو التقاعد لا يخلق فيه روح التجديد والتميُّز، بل على العكس فذلك يولد وسطًا بائسًا ومحبطًا قائمًا على الروتين القاتل، ومن المبادئ المفترض وضعها هي «الاستقلاليَّة والخصوصيَّة»؛ حيثُ إنَّ المُجتمع المدرسي له خصوصيَّته عن بقيَّة الأحكام المَدنيَّة. فليس من الصواب ـ إن حصلت بعض السلوكيَّات بَيْنَ العاملين بالحقل التربوي وبَيْنَ المتعلمين أو أولياء الأمور ـ أن تحال إلى الجهات القضائيَّة والادعاء العام، بل من الضرورة أن تتمتع المؤسَّسة التربويَّة باستقلاليَّة ذات طابع خاص يعطي هذه المؤسَّسة قيمتها ووزنها المؤسَّسي والمُجتمعي في معالجة بيتها الداخلي، كما يحتفظ فيها بقيمة المُعلِّم بَيْنَ أوساط المُجتمع. وهنا نستظهر ما يُثار في الساحة التربويَّة حَوْلَ الكثير من المستحدثات الإداريَّة والإشرافيَّة، ومنها ـ على سبيل المثال ـ «منظومة إجادة» الَّتي خلقتْ بيئة مشحونة في الوسط التربوي بحُكم اعتمادها على معادلات وآليَّات تنفيذيَّة قد لا تتوافق وطبيعة البيت التربوي، فهل عمل الفريق المعني بهذه المنظومة على وضع مؤشِّر قياس الرضا لهذه الشريحة الكبيرة من موظفي الجهاز الإداري للدولة؟ وهل تمَّ وضع الآثار المترتبة عليها بِعَيْن الاعتبار في ظل كثرة الأعباء التدريسيَّة والإداريَّة والإشرافيَّة المُلقاة على عاتق المُعلِّم؟!
إنَّ التعليم مشروع حيوي عظيم يتطلب من الجميع الشعور بالمسؤوليَّة المنوطة بهم، فما وصلت إليه فنلندا، واليابان، وكوريا، والولايات المتحدة الأميركيَّة للأدوار المتقدمة في صناعة التعليم إلَّا بتكاتف الجميع.. نحن بحاجة إلى دعم المؤسَّسات والأفراد والمُجتمع للمُعلِّم وتحقيق الرضا الوظيفي والروحي فيما أوكل إليه من رسالة شاقة، لَسْنا بحاجة إلى ضربه بسياط الفشل والتقهقر دُونَ أن تكُونَ بَيْنَ أيدينا المؤشرات العالميَّة الَّتي على ضوئها يُمكِننا أن نحللَ مكامن ضعف تنمية التعليم في البلاد. كما أنَّنا نملك خريطة طريق واضحة يتقدمها النظام الأساسي للدولة، والخطابات السَّامية لجلالة السُّلطان ـ حفظه الله ـ ورؤية «عُمان 2040» ضمن محور «الإنسان والمُجتمع» حيثُ جاءت مفصّلة ضمن أولويَّة «التعليم والتعلُّم والبحث العلمي والقدرات الوطنيَّة»، و»الاستراتيجيَّة الوطنيَّة للتعليم 2040»، فهي دعوة نقدِّمها للمؤسَّسات المعنيَّة بالتعليم في البلاد، وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم، بضرورة إعادة المهِمَّة التدريسيَّة للمُعلِّمين حتَّى لا نجد أنفسنا يومًا أمام قِطاع متذمر ومحبط ولسان حاله «يا ليتني لم أكُنْ مُعلِّما».
كاتب عماني
Sultankamis@gmail.com





















اترك تعليقاً