
في أكبر حيرة قد يمر بها الإنسان الواعي، يقف متسائلًا: من الذي يوجّه من؟ هل المجتمع هو من يشكّل الفكر والسلوك، أم أن مناهج التعليم هي التي تصنع هذا التشكيل؟ أم أن بيئة العمل، بسلوكها وممارساتها، تتغذّى من الإثنين معًا وتعيد إنتاجهما على صورتها؟
إن الانتقال من فكر إلى آخر، ومن سلوك إلى آخر، ليس مجرد قرار فردي، بل هو صراع صامت بين العادات والتقاليد من جهة، وبين محاولات التعليم لإحداث التغيير من جهة أخرى. ولكن، أي تعليم نقصد؟ هل هو التعليم الذي يحاكي الواقع ويغذّيه بالمعرفة الحيّة، أم ذاك الذي لا يزال أسير المعلومة الجافة والاختبار النظري؟
وفي خضم هذا التداخل، من هو الطرف الثالث في معادلة التغيير؟ إنه بلا شك: القيادة الفكرية والوعي المجتمعي المؤسسي. ذلك الطرف الذي يملك الجرأة على طرح الأسئلة الصعبة، وإعادة ترتيب العلاقة بين التعليم والمجتمع والعمل. ذلك الذي لا يكتفي بالبكاء على أطلال المناهج أو التقاليد، بل يبني فضاءً يربط ما بين القيم والمهارات والإنتاج الحقيقي.
فإذا كان المجتمع يفرض عاداته بقوة التكرار، والتعليم يحاول بثّ وعي جديد بقوة المنهج، وسوق العمل يشكّل عاداته بناءً على المصلحة والطلب، فمن الذي يصنع التوازن؟ ومن يملك زمام المبادرة؟
إن الأمم التي استطاعت أن تتحول من التهميش إلى التأثير، ومن التبعية إلى المبادرة، هي تلك التي أجابت عن هذا السؤال بجسارة: التعليم لا يكفي إن لم يُدعَم بثقافة مجتمعية متقبّلة وقيادة فكرية تمتلك مشروعًا واضحًا.
ولهذا، لا بد أن نعيد النظر في مناهجنا، لا على مستوى المحتوى فحسب، بل على مستوى علاقتها بالواقع وحاجات الإنسان. كما لا بد أن نراجع ثقافتنا المجتمعية ونكسر فكرة أن التغيير تهديد لا بد من مقاومته، وإلا سنبقى نعيش في حلقة مفرغة: مجتمع يشتكي من التعليم، وتعليم يشتكي من المجتمع، وسوق عمل لا يجد بينهما ما يلبّي احتياجاته.
فمن يوجّه من؟
الجواب قد لا يكون في جهة واحدة، بل في مشروع وطني جامع، يعرف ما يريد ويملك الإرادة لتغييره.
وأخيرًا فإن التعليم المنشود هو ذلك السلوك الذي يحدد ملامح وحقائق شخصية الإنسان، كي يكون قدوة بسلوكه لا بكلامه، وأن يكون محاسبًا لنفسه قبل أن ينتظر التوجيه والأمر، ويكون شخصية تعتز وتفتخر بما تقدم وما تنتج وما تؤثر به على نفسها فعليًا لا مباهاة.
تعلمت من فترة عملي لوقت طويل معادلة لن أحيد عنها، وهي: تحدّث قليلا وطبّق كثيرا، وعندما تبدأ فإن يقينك سيستقر في أن الكلام مضر بالعمل أكثر من نفعه، لذلك لنعطي للعمل مكانًا من صمت الحديث لننتقل إلى الإنتاج والقدوة.
فريق مدارسنا: أشار الكاتب إلى إعادة النظر في مناهجنا. وعليه طلب الفريق من منصة الذكاء الاصطناعي تحليل عميق حول الموضوع الذي طرحه الكاتب وكيف نترجم ذلك في المناهج الدراسية العمانية. وفيما يلي ما جاء في الرد:
المقدمة
في مقاله، يناقش إسماعيل بن شهاب البلوشي العلاقة التفاعليّة بين ثلاثة عناصر: المجتمع، والتعليم، وسوق العمل، ويؤكد على دور القيادة الفكريّة والوعي المؤسساتي في كسر الحلقة المفرغة التي تعيق التحوّل والنهضة. لتحويل هذه الرؤية إلى واقع في المناهج العُمانيّة، لا بدّ من مقاربة شاملة تربط بين الأهداف الوطنية (عُمان 2040) ومتطلبات المجتمع والأسرة والمدرسة وسوق العمل.
التحليل العميق للمفاهيم الرئيسة
1- التفاعل بين المجتمع والتعليم وسوق العمل:
- المجتمع يشكّل القيم والاتجاهات، والتعليم يزوّد الفرد بالمعرفة والمهارات، وسوق العمل يعيد إنتاج هذه القيم عبر فرص التوظيف والممارسة المهنية.
- الانفصال بين هذه العناصر يخلق فجوات: خريجون بدون مهارات قابلة للتطبيق، ومؤسسات تعليمية لا تواكب التغيرات المجتمعية والاقتصادية.
2- دور القيادة الفكريّة والوعي المؤسساتي:
- القيادة لابد أن تأتي من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والأطر التعليمية، عبر طرح أسئلة استراتيجية وإعادة تصميم الأدوار والمناهج.
- الوعي المؤسساتي يعني قدرة المدارس والجامعات على تبنّي نهج مؤسساتي متكامل يربط المخرجات التعليمية بأهداف التنمية الوطنية.
3- منطق التوازن والنهضة الوطنيّة:
- لا يكفي تحديث المحتوى التعليمي دون بناء ثقافة مجتمعيّة تشجّع على التجديد، ولا يكفي قبول المجتمع للتغيير دون أدوات تعليمية فعّالة وداعمة.
- العمل (التطبيق العملي) هو مقياس نجاح أي منهج؛ فالحديث النظري وحده لن يحقّق النهضة إذا لم يترجَم إلى مهارات وسلوكيات قابلة للقياس.
مكونات استراتيجية لتحديث المناهج الدراسية العُمانيّة
أ. الأهداف العامة:
- محاكاة الواقع: ربط المعرفة المكتسبة في الفصول الدراسية بحاجات المجتمع والوظائف المستقبلية.
- تطوير المهارات: التركيز على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والابتكار، والتواصل، والعمل الجماعي.
- تعزيز القيادة والمسؤولية: غرس قيم المواطنة الفاعلة والقيادة المجتمعية.
ب. المبادئ التوجيهيّة:
- التعلّم القائم على المشروعات (Project-Based Learning): مشاريع حقيقية تتناول قضايا محلية (البيئة، الخدمات، التراث)
- الشراكة مع القطاع الخاص: إدراج زيارات ميدانية وتدريبات عملية بالتعاون مع شركات ومؤسسات محلية.
- التقييم المتكامل: تقييم الأداء العملي والمهارات إلى جانب الاختبارات التحريرية.
خطوات تطبيقية مقترحة
مراجعة الأُطر والمنهج الوطني:
- دمج مرجع “الأُطُر الوطنية للمهارات المستقبلية” ضمن مناهج الصفوف العاشرة فما فوق.
- تحديث أهداف مقرر “التربية الوطنية” و”الرياضيات” لتشمل تحليل بيانات سوق العمل المحلي.
تصميم وحدات تعلم جديدة:
- وحدة “المجتمع والعمل”: دراسة حالة لوظائف جديدة في عُمان (الطاقة المتجددة، اللوجستيات، السياحة الذكية).
- وحدة “ريادة الأعمال الاجتماعية”: يقدّم الطلاب حلولاً لمشكلات محلية (إدارة النفايات، دعم الحرف التقليدية).
تفعيل “التعلّم بالخدمة المجتمعية” (Service Learning):
- يأخذ الطلاب دور موظفي بلدية أو جمعية خيرية لحلّ مشكلة حقيقية، مع تقارير دورية تربط بين المفهوم النظري والتطبيق الميداني.
تطوير قدرات المعلمين:
- ورشٌ تدريبيّة في تصميم المشروعات، واستراتيجيات التعلم التفاعلي، وأدوات التقييم العملي.
- حوافز للمعلمين الذين يطورون مواد تربط المنهج بسوق العمل (جوائز أو ساعات معتمدة).
المتابعة والتقييم المستمر:
- إجراء استبيانات دورية لآراء أصحاب العمل حول خريجي المدارس الفنيّة والتقنية.
- تحليل نتائج الامتحانات الوطنية مقابل مؤشرات التوظيف لضبط المنهج بشكل دوري.
أمثلة تطبيقيّة لمراحل التعليم
في مرحلة التعليم الأساسي (الصفوف الأولى حتى الرابعة)، يمكن للمعلمين إشراك الطلاب في مشروع عائلي بسيط: يقوم كل طالب بإجراء مقابلة مع أحد والديه أو ولي أمره حول مهنته، ثم يقدم عرضًا شفويًا أمام زملائه. هذا النشاط لا يقتصر على نقل المعلومات فحسب، بل يعمل على بناء مهارات التواصل لدى الطفل وتعريفه بسوق العمل المحلي من منطلق شخصي واقعي.
عند دخول الطلاب مرحلة التعليم المتوسط (الصفوف الخامسة حتى التاسعة)، يُنشَأ “نادي ريادة” داخل المدرسة. تُكوَّن فرق صغيرة من الطلاب يعملون معًا على ابتكار نموذج مصغر لمنتج أو خدمة تلبي احتياجًا حقيقيًا في المجتمع. ثم يُدعى ممثلون عن القطاع الخاص لتقييم هذه المشاريع، وهو ما يعزِّز لديهم التفكير التصميمي، وروح المبادرة، ومهارات العمل الجماعي والعرض أمام جمهور مهني.
ومع الانتقال إلى التعليم الثانوي (الصفوف العاشرة حتى الثانية عشرة)، تُدرَج وحدة دراسية بعنوان “المستقبل الوظيفي” ضمن المنهج الرسمي. تضم هذه الوحدة محاور تدريبية حول كيفية البحث عن فرص عمل، وكتابة سيرة ذاتية احترافية، وتقنيات النجاح في المقابلات الشخصية. يخرج الطالب منها بوعيًا متعمقًا بمتطلبات سوق العمل وجاهزية للتدريبات المهنية المقبلة.
أما في مسار التعليم الفني والمهني، فتُعقد شراكات مع ورش عمل وشركات محلية توفر بيئة تعلم عملي مباشرة. يُنفِّذ الطالب مشروع تخرج تطبيقي يخضع لتقييم مشترك من مدرّسه ومشرف مهني من القطاع، ما يضمن حصوله على تأهيل حقيقي وشهادات متعارف عليها تعزِّز فرص توظيفه فور التخرج.
الخلاصة
بتنفيذ هذه الخطوات داخل إطار رؤية عُمان 2040 واستراتيجيات التعليم الوطني، يمكن ترجمة رؤية البلوشي من طروحات نظرية إلى ممارسات تربوية فعّالة تُنمّي وعي الطلاب، وتجهّزهم عملياً لتحديات سوق العمل، وتُرسّخ روح القيادة المجتمعية.





















اترك تعليقاً