
فريق مدارسنا: برزت فكرة كتابة هذا المقال باستخدام الذكاء الاصطناعي بعد قراءة مقال الكاتب عُمر العبري في جريدة عُمان لإلقاء المزيد من الضوء على هذه الظاهرة وعن الكتاب الذي أشار إليه وهو «The Bullied Brain» للكاتبة الكندية جنيفر فريزر، وذلك لأهمية الموضوع والعمل على معالجة هذه الظاهرة.
شرح مبسط ودقيق لمصطلح “التنمّر في المدارس” من منظور تربوي ونفسي:
لتنمّر في المدارس هو سلوك عدواني متكرر يحدث داخل البيئة المدرسية أو يرتبط بها، ويستهدف فيه شخص أو مجموعة شخصًا آخر بقصد الإيذاء أو الإهانة أو السيطرة. يتضمن هذا السلوك اختلالًا في ميزان القوة (الجسدية أو الاجتماعية أو النفسية)، ويُمارَس بشكل متكرر عبر الوقت. تتمثل عناصر التنمّر الأساسية في النية بالإيذاء (ولو كانت مخفية خلف المزاح أو الدعابة)، تكرار السلوك وليس مجرد حادثة عابرة ولاختلال القوة بين المتنمّر (أقوى أو أكثر نفوذًا) والضحية. ويتنوع ما بين التنمر اللفظي (مثل الشتم، السخرية وإطلاق ألقاب جارحة والتهديد بالكلام)، والتنمر الجسدي (مثل الضرب، الدفع، الركل، تكسير أغراض الضحية)، والتنمر النفسي/الاجتماعي (مثل العزل اجتماعي، نشر الإشاعات، والتحقير أمام الآخرين)، وأخيرا وليس آخرا التنمر الرقمي (مثل التتنمّر عبر الإنترنت: الرسائل المؤذية، الصور المحرجة، التشهير). ويمكن أن يحدث التنمر في الصف الدراسي أو في فناء المدرسة أو الملعب أو في الحافلات المدرسية أو عبر المجموعات الإلكترونية والتطبيقات التي يستخدمها الطلاب. أما أثر التنمّر المدرسي فيكون في شكل تراجع الأداء الأكاديمي و/ أو ضعف الثقة بالنفس و/ أو الاكتئاب والقلق و / أو اضطرابات النوم والطعام وفي حالات حادة الميل للعزلة أو حتى إيذاء النفس.
التنمر المدرسي: ظاهرة عالمية بأبعاد مقلقة
وفق تقرير اليونسكو (2019)، يعاني حوالي 1 من كل 3 طلاب (أي ما يقرب من 246 مليون طفل ومراهق حول العالم) من شكل من أشكال التنمر في المدرسة. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن التنمر النفسي (السخرية، الإقصاء، التهديد) أكثر شيوعًا من التنمر الجسدي. وفيما يلي أمثلة واقعية توضح حجم التنمر المدرسي في بعض دول العالم:
- في اليابان، سجلت وزارة التعليم في عام 2022 أكثر من 600,000 حالة تنمر تم الإبلاغ عنها، وهو أعلى رقم في تاريخها.
- في الولايات المتحدة، تشير تقارير التعليم الوطني إلى أن 1 من كل 5 طلاب يتعرض لشكل من أشكال التنمر سنويًا.
- في مصر، أظهرت دراسة بالتعاون مع اليونيسف (2018) أن 70% من الأطفال تعرضوا لعنف جسدي أو نفسي في المدرسة.
مقدمة عن الكاتبة والكتاب
في عالم يزداد فيه وعينا بتأثير الصدمات النفسية والتجارب المؤلمة على الصحة النفسية والجسدية، تقدم الكاتبة الكندية د. جنيفر فريزر (Jennifer Fraser) مساهمة فريدة من نوعها تربط بين التجربة التربوية والعلم العصبي الحديث، لتُظهر كيف أن التنمر لا يُدمّر فقط الثقة بالنفس أو العلاقات الاجتماعية، بل يمتد أثره عميقًا ليطال البنية الفيزيائية للدماغ.
جنيفر فريزر كاتبة، محاضرة، وأكاديمية متخصصة في الأدب والتعليم، لكنها في هذا العمل تنطلق من خلفية شخصية ومهنية في آنٍ معًا. فهي لم تكتب كتاب The Bullied Brain: Heal Your Scars and Restore Your Health كعالمة أعصاب أو طبيبة نفسية تقليدية، بل كأم ومربية شهدت بشكل مباشر آثار التنمر الخفي والممنهج في المؤسسات التعليمية. دفعتها هذه التجربة إلى الغوص في مئات الدراسات العلمية، والتحاور مع نخبة من أطباء الأعصاب والباحثين، لتصل إلى فهم ثوري: أن التنمر لا يمرّ دون أثر عصبي، وأن الضرر الناتج عنه يُمكن – بل يجب – أن يُعالج علميًا لا فقط نفسيًا أو سلوكيًا.
The Bullied Brain هو كتاب يستند إلى أكثر من مجرد تجربة شخصية أو موقف تربوي، إنه عمل يعيد تعريف التنمر من منظور علم الأعصاب. على مدى فصوله، يشرح الكتاب كيف أن التعرض المستمر للإذلال، التحقير، التهديد أو التجاهل، يُحدث تغييرات قابلة للرصد في الدماغ البشري، مشابهة لتلك الناتجة عن الصدمات المزمنة. ويكشف كيف يُعيد الدماغ “المتنمَّر عليه” برمجة نفسه ليصبح في بعض الحالات متنمِّرًا بدوره، مما يُنتج حلقة مفرغة من الأذى والعدوى العصبية.
لكن الأهم من ذلك، أن فريزر لا تكتفي بوصف الضرر، بل تقدم أيضًا خارطة شفاء. فالدماغ المتضرر – كما تشرح الكاتبة – قادر على إعادة التشكيل من خلال آليات “المرونة العصبية”، بشرط أن نوفّر له بيئة مناسبة من الوعي، الدعم، والممارسات الصحية. وهذا يشمل أدوات مثل التأمل، العلاج المعرفي، الرياضة، العلاقات الآمنة، والمداخل التربوية الرحيمة.
الكتاب لا يخاطب المتخصصين فقط، بل يتوجه إلى الأهل، المعلمين، المدراء، والمراهقين أنفسهم، داعيًا إلى ثورة ثقافية تبدأ من الدماغ وتنتهي في المؤسسة. إنه دعوة لإعادة بناء المدارس، البيوت، وأماكن العمل، وفق فهم عصبي جديد للكرامة، الرعاية، والتعافي.
في هذا المقال، سنقوم باستعراض موسّع لأهم ما ورد في هذا العمل المهم، من خلال تحليل فصوله ومحاوره الجوهرية، بأسلوب مبسط يناسب القارئ العام والمهني على حد سواء، بدءًا من الفصل الأول الذي يضع الأساس العلمي لفهم “الدماغ المتنمَّر”.
الفصل الأول: التنمر والدماغ – كشف الحقيقة المخفية
في المجتمعات المعاصرة، يُنظر إلى التنمر غالبًا كظاهرة اجتماعية أو تربوية، تتكرر في المدارس وأماكن العمل وأحيانًا في البيوت، لكنها تُعدّ في نظر الكثيرين مرحلة عابرة من مراحل النمو. غير أن الكاتبة جنيفر فريزر، من خلال كتابها “الدماغ المتنمَّر” (The Bullied Brain)، تطرح رؤية مغايرة وجريئة، تنطلق من العلم العصبي لتؤكد أن التنمر ليس مجرد معاناة نفسية، بل هو تهديد حقيقي للبنية الدماغية ووظائفها.
بدأت فريزر رحلتها في هذا الكتاب من منطلق شخصي؛ إذ وجدت نفسها في قلب أزمة تنمر تعرّض لها أحد أبنائها على يد شخص بالغ ومسؤول داخل مؤسسة تعليمية. لكنّ هذه الحادثة لم تنتهِ بمجرد المواجهة أو الشكوى، بل أصبحت مدخلاً عميقًا لغوصها في عالم علم الأعصاب، بهدف فهم ما يحدث فعلًا داخل دماغ الإنسان حين يتعرّض للإذلال، التحقير، أو العنف العاطفي المستمر. تساءلت: هل تترك الكلمات الجارحة والشتائم أثرًا فيزيولوجيًا كالضرب؟ وهل يمكن أن تُحدث الإهانة ضررًا حقيقيًا يُرصد في صور الدماغ؟
من هذا المنطلق، ينطلق الكتاب ليشرح أن التنمر، بما يحمله من ضغط نفسي مستمر، يُولّد ما يُعرف بالإجهاد السام (Toxic Stress). هذا النوع من التوتر المزمن لا يمرّ دون أثر، بل يترك بصمته في أنسجة الدماغ، ويؤثر على الطريقة التي يعالج بها الشخص المعلومات، ويشعر بها، ويتفاعل معها. الدراسات التي تعتمد على التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أظهرت أن المناطق المسؤولة عن الشعور بالألم الجسدي هي ذاتها التي تتنشط حين يتعرض الإنسان للإهانة أو العزل الاجتماعي، مما يعني أن الدماغ لا يُفرّق كثيرًا بين الضرب والإذلال.
يتسبب التنمر في تضخيم استجابة “اللوزة الدماغية” (Amygdala)، وهي المسؤولة عن تقييم التهديدات وتفعيل آليات الدفاع كالهرب أو المواجهة. ومع تكرار التجربة، تصبح هذه المنطقة أكثر حساسية، مما يجعل الشخص في حالة يقظة دائمة وخوف مزمن، حتى دون وجود خطر حقيقي. وفي الوقت نفسه، تضعف وظيفة القشرة الأمامية الجبهية (Prefrontal Cortex)، وهي الجزء المسؤول عن اتخاذ القرارات، وضبط الانفعالات، والتفكير العقلاني. النتيجة: يصبح الفرد أكثر قلقًا، أقل قدرة على التركيز، وأقل مهارة في حل المشكلات أو التعامل الاجتماعي.
المثير في طرح فريزر هو أنها لا تكتفي بوصف الضحية، بل تسلط الضوء أيضًا على ظاهرة “التحوّل العصبي” من ضحية إلى متنمِّر. فالطفل الذي تعرّض للتنمر طويلًا دون حماية أو فهم، قد ينتهي به المطاف إلى تقمّص دور المعتدي. لكن هذا السلوك ليس دائمًا نتيجة اختيار واعٍ، بل أحيانًا يكون ناتجًا عن برمجة عصبية زرعتها تجربة الألم والذل في أعماق دماغه. إن الدماغ المتألم، كما تشير الكاتبة، يعيد إنتاج أنماط الألم، سواء في سلوكه مع الآخرين أو مع نفسه.
وتذهب فريزر أبعد من الأفراد، لتنتقد الأنظمة التي تطبع هذا السلوك وتعيد تدويره. فهي ترى أن العديد من المدارس والمؤسسات – بقصد أو بدونه – تُكرّس بيئة تعتمد على العقاب والإذلال، وتُشرعن التنمر كوسيلة للسيطرة أو “التربية الصارمة”. هذا التنمر المُمَأسس لا يُنظر إليه على أنه جريمة، بل يُخفى وراء شعارات مثل “الانضباط”، أو “التنافس”، أو حتى “الروح الرياضية”. لكن ما يغفله كثيرون هو أن هذه البيئات تُنتج أدمغة مُرهَقة، هشة، وسهلة الانكسار.
إن من أكبر مساهمات فريزر في هذا الفصل هو تأكيدها أن التنمر لا يُمكن الاستخفاف به أو التغاضي عنه، لأنه لا يترك جراحًا عابرة، بل ندوبًا عصبية قد تلازم الإنسان لسنوات. وتدعو إلى ضرورة إعادة النظر في خطابنا الثقافي تجاه ما نعتبره “تجارب طبيعية للنضج”، لأن هذه النظرة قد تُشرعن العنف وتُخفي ألمه الحقيقي.
ولعلّ الأهم في هذا السياق هو دعوة الكاتبة إلى الوعي. فهي ترى أن أول خطوة في العلاج ليست بالضرورة دوائية أو نفسية، بل معرفية: أن ندرك كيف يعمل الدماغ، كيف يتأذى، وكيف يُمكن أن يُشفى. إن وعينا بأن التنمر يترك أثرًا ماديًا في الدماغ، يجعلنا أكثر حرصًا على حماية أنفسنا وأطفالنا منه، وأقل ميلًا لتبريره أو تجاهله.
تطرح فريزر رؤية جديدة للعلاج، لا تبدأ فقط من “الضحية”، بل من “الثقافة”، وتدعو إلى أن نعيد تشكيل الخطاب التعليمي والاجتماعي، بحيث يكون مبنيًا على التعاطف، والاحترام، والفهم العميق لطبيعة الدماغ البشري. تقول: “حين نعرف أن الدماغ يمكن أن يُعاد تشكيله، يمكننا أن نعيد كتابة قصتنا.” وهذا ما يُبنى عليه لاحقًا في فصول الكتاب، التي تستعرض آليات الشفاء، وأدوات المرونة العصبية، ونماذج التغيير الممكنة داخل المؤسسات.
الفصل الثاني: ندوب خفية – كيف يبدو التنمر في التصوير العصبي؟
ما يجعل كتاب The Bullied Brain استثنائيًا لا يكمن فقط في جرأته في طرح موضوع حساس مثل التنمر، بل في تقديمه دلائل علمية ملموسة على أن آثار التنمر يمكن رصدها في صور الدماغ كما تُرصد آثار الإصابات الجسدية. فريزر لا تتحدث هنا عن مشاعر مجروحة فقط، بل عن أدمغة مصابة إصابات حقيقية يمكن قياسها ودراستها بالأدوات التي يستخدمها علماء الأعصاب.
في هذا الفصل، تُسلط الكاتبة الضوء على الاكتشافات التي أحدثت ثورة في فهمنا لتأثير العلاقات السامة، والبيئات القمعية، والألفاظ المؤذية على الجهاز العصبي. وتستعرض عددًا من الدراسات التي استخدمت تقنيات متقدمة كـ التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وتصوير التروية الدماغية (PET scan)، والمسح الطيفي بالرنين المغناطيسي (MRS)، لرصد كيف تؤثر التجارب المؤلمة مثل التنمر على نشاط الدماغ وبنيته.
واحدة من أكثر النتائج إثارة للانتباه تتعلق بمركز يُعرف باسم القشرة الحزامية الأمامية (Anterior Cingulate Cortex)، وهي منطقة ترتبط بتنظيم الألم والانفعالات. لقد أثبتت التجارب أن هذه المنطقة تنشط بشدة عندما يتعرض الإنسان للرفض الاجتماعي أو التحقير، بنفس الطريقة التي تنشط بها عند تعرضه للألم الجسدي. ويُعزز ذلك فرضية أن الدماغ لا يفرّق بين الضرب بالكلام والضرب بالأيدي، وأن الكلمات الجارحة يمكن أن تكون سكاكين عصبية حقيقية.
تشير فريزر أيضًا إلى اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي البنية المسؤولة عن رصد التهديدات والانفعالات السلبية. في أدمغة الأطفال الذين تعرضوا للتنمر، وجدت الدراسات أن هذه المنطقة تتضخم وتصبح أكثر نشاطًا، مما يُبقي الشخص في حالة تأهب دائم، ويؤدي إلى القلق المزمن، فرط التوتر، وصعوبات النوم والانتباه.
الأثر لا يتوقف عند هذا الحد. فريزر توضح أن القشرة الجبهية الأمامية، وهي المسؤولة عن اتخاذ القرار، وضبط الانفعالات، والتفكير العقلاني، تُضعف تدريجيًا تحت وطأة الضغط النفسي المزمن الناتج عن التنمر. هذه التغييرات تعني أن ضحايا التنمر قد يظهرون سلوكيات اندفاعية، تراجعًا في التحصيل الدراسي أو العملي، وميلًا إلى العزلة ليس لأنهم ضعفاء أو غير مهتمين، بل لأن أدمغتهم ببساطة قد تأثرت بيولوجيًا.
إحدى النقاط اللافتة التي تقدمها الكاتبة هي أن هذه التغيرات العصبية لا تظهر فورًا، وإنما تتراكم بمرور الوقت. ولهذا السبب كثيرًا ما يُساء تفسير تدهور الحالة النفسية أو السلوكية لدى الطفل أو الشاب، ويُنسب إلى “سوء التربية” أو “ضعف الشخصية”، بينما الحقيقة هي أن الدماغ قد أصبح ضحية لتغيرات عضوية لا تُرى بالعين المجردة.
وتدعم فريزر رأيها بشهادات لعلماء أعصاب مرموقين تحدثوا عن هذه الآثار، وأكدوا أن التعرض للإذلال والرفض الاجتماعي مرارًا وتكرارًا يمكن أن يؤدي إلى تآكل في مناطق دماغية مسؤولة عن الهوية، والذاكرة، والتنظيم العاطفي. وبعض هذه التغيرات يُشبه إلى حد بعيد تلك التي تظهر في أدمغة الجنود بعد التعرض لصدمة الحرب، أو النساء بعد تجربة العنف الأسري.
ومع هذا، فإن الرسالة ليست يأسًا بل أمل. تؤكد الكاتبة أن هذه الندوب العصبية ليست دائمة بالضرورة، وأن الدماغ – بخلاف معظم الأعضاء – يمتلك قدرة رائعة على إعادة التشكيل، والتعافي، وإعادة الاتصال بين الخلايا العصبية، وهو ما يُعرف بـ المرونة العصبية (Neuroplasticity). لكن هذه القدرة لا تُفعّل تلقائيًا، بل تحتاج إلى محفزات إيجابية: بيئة آمنة، علاقات داعمة، تغذية جيدة، حركة منتظمة، ووعي بالذات.
إن فهم هذه التغيرات العصبية يُغيّر نظرتنا للتنمر بشكل جذري. فهو لم يعد مجرد “حدث اجتماعي”، بل أصبح إصابة عصبية مزمنة. ولذلك، يصبح لزامًا علينا أن نعيد التفكير في كيفية تعاملنا معه على جميع المستويات: داخل المدارس، في الأسرة، في أماكن العمل، وفي الثقافة العامة.
في نهاية هذا الفصل، تقترح فريزر أن إدراك الأثر الدماغي للتنمر يجب أن يكون جزءًا من تدريب المعلمين، والأطباء، والآباء، وصناع القرار. إن أي بيئة تتعامل مع الإنسان دون فهم لطبيعة دماغه وكيف يتأذى، هي بيئة عمياء تُعيد إنتاج الألم بدلًا من مداواته.
الفصل الثالث: عندما يتنمر الكبار – المدارس، الأسر، وأماكن العمل
لطالما ارتبط مفهوم التنمر بالأطفال والمراهقين، وكأن العالم ينظر إليه على أنه ظاهرة محصورة في باحات المدارس وصفوف الدراسة. غير أن جنيفر فريزر في The Bullied Brain تكشف ما هو أعمق وأكثر خطورة: التنمر لا يختفي مع النضج، بل أحيانًا يُعاد إنتاجه وتضخيمه على يد البالغين، لا سيما في المؤسسات التربوية والأسرية والوظيفية.
تشير الكاتبة إلى أن كثيرًا من الأطفال الذين يتعرضون للتنمر في المدارس لا يجدون الحماية من البالغين، بل يُفاجَؤون بأن المعلمين أو المديرين يتجاهلون شكواهم، أو يسخرون منها، أو حتى يُحمّلونهم مسؤولية ما وقع لهم. في حالات عديدة، يكون المتنمّر شخصًا بالغًا: معلمًا، مدربًا، أو حتى أحد الوالدين. هذا النوع من التنمر – حين يصدر من جهة ذات سلطة – يكون أشد أثرًا على الدماغ، لأنه لا يُترجم فقط إلى مشاعر خوف، بل إلى اضطراب في الهوية والثقة بالنفس.
تحكي فريزر عن حوادث موثّقة تعرض فيها أطفال ومراهقون لإذلال علني، أو شتائم لفظية، أو تحقير مستمر على يد معلمين، دون أن تتدخل المؤسسة التعليمية. بل في بعض الحالات، كانت الإدارة تُغطي على السلوك، أو تبرره تحت ذريعة “الصرامة التعليمية”. هذا “التنمر المؤسسي” كما تسميه الكاتبة، لا يُضعف الأفراد فقط، بل يُضعف النظام كله، لأنه يُنتج بيئة يزدهر فيها الخوف، وتُقمع فيها الإبداع والاستقلالية.
ولا تقف الظاهرة عند المدارس. فريزر تُشير بوضوح إلى أن الأسر قد تتحول إلى بيئات للتنمر أيضًا، حين يستخدم أحد الوالدين أو كلاهما أسلوب العقاب المفرط، أو الإذلال العاطفي، أو التقليل من شأن الطفل باستمرار. في مثل هذه البيئات، يتعلم الطفل أن الحب مشروط، وأن قيمته مرهونة بأدائه أو خضوعه، وهي قناعة تُغرس في الدماغ وتؤثر لاحقًا على كل أنماط علاقاته.
أما في أماكن العمل، فتصف الكاتبة كيف يتكرّر السيناريو ذاته بأدوات مختلفة. فالتنمر المهني قد يأخذ شكل التهميش، التجاهل، التحقير في الاجتماعات، أو تحميل الموظف مسؤولية الإخفاقات دون دعم. وتوضح أن هذه البيئات – تمامًا مثل المدارس – تنتج موظفين لديهم مؤشرات واضحة على التوتر العصبي، والقلق، والإجهاد الدماغي المزمن.
المثير أن فريزر لا تتناول الموضوع من باب الشكوى أو التوصيف الأخلاقي، بل تُحلله في ضوء علم الأعصاب. فهي تؤكد أن “الدماغ المتنمَّر” حين لا يتلقّى الحماية أو الإنصاف، يُعيد بناء ذاته على أساس الخوف لا على أساس الثقة. هذا يُنتج أفرادًا يعيشون في حالة من التيقّظ العصبي (Hypervigilance)، أي أنهم يتوقعون الهجوم أو الإهانة في كل موقف، ويطورون استراتيجيات دفاعية قد تتجلى في الانطواء، العدوان، أو الاسترضاء المفرط.
ولا تكتفي الكاتبة بتوصيف الأثر الفردي، بل تطرح رؤية واسعة ترى أن المؤسسات التربوية والإدارية يمكنها أن تتحول إلى أدوات شفاء أو أدوات إيذاء، حسب الطريقة التي تُدار بها العلاقات. وهي تدعو إلى “تحول ثقافي” يبدأ من الاعتراف بأن السلطة قد تتحول إلى أداة قمع، إن لم تُضبط بقيم الاحترام والرحمة والمساءلة.
في هذا السياق، تقترح فريزر أن يكون تدريب المعلمين والمديرين والآباء مبنيًا على فهم بيولوجيا الدماغ وآليات الأذى النفسي. فالمسألة لم تعد فقط مرتبطة بـ”الأخلاق” أو “النوايا الحسنة”، بل بـ”الوعي العصبي”. إنها تدعو إلى نوع جديد من القيادة، لا يُقاس بالحزم وحده، بل بالقدرة على خلق بيئات تُشعر الإنسان بالأمان والانتماء.
ولعلّ أبرز ما يؤكده هذا الفصل هو أن البالغين، بكل ما لديهم من سلطة، قد يكونون جزءًا من المشكلة ما لم يُخضعوا أنفسهم للمساءلة والتفكّر. وأن شفاء المجتمعات من آفة التنمر لا يبدأ فقط بحماية الأطفال، بل بإعادة النظر في بنية السلطة نفسها، وآليات التواصل، وأنماط التربية والإدارة.
الفصل الرابع: الأصوات المسمومة – التنمر الداخلي وتأثيره على تقدير الذات
بعد أن تناولت جنيفر فريزر في فصولها السابقة الأثر العصبي المباشر للتنمر، والبيئات المؤسسية التي تُعيد إنتاجه، تنتقل في هذا الفصل إلى مساحة أكثر خفاءً: داخل الدماغ نفسه. تتناول الكاتبة هنا كيف يتحول التنمر الخارجي إلى تنمر داخلي، عبر صوت داخلي قاسٍ، دائم الانتقاد، يتحدث باسم المتنمِّرين، ويعيد إيذاء الضحية حتى بعد اختفاء المصدر الخارجي للضرر.
هذا الصوت الداخلي – الذي يسميه علماء النفس أحيانًا “النقد الذاتي السام” – لا يُولد من العدم. بل هو في الغالب نتيجة تراكم الأصوات المؤذية التي سمعها الإنسان في طفولته أو مراهقته: “أنت غبي”، “لن تنجح أبدًا”، “أنت عبء”، “لا أحد يحبك”، وغيرها من العبارات التي قد تُلقى في لحظة غضب، لكنها تزرع جذورًا عميقة في الدماغ.
توضح فريزر أن الدماغ، بفعل خاصية المرونة العصبية السلبية (Negative Neuroplasticity)، يُعيد تشكيل نفسه ليُطوّر نمطًا دائمًا من التفكير المعتمد على اللوم الذاتي، والخوف من الرفض، والشعور بالدونية. وبمرور الوقت، تصبح هذه الأنماط راسخة، حتى أن الإنسان قد يُمارس على نفسه نفس العنف اللفظي الذي كان يُمارس عليه من الآخرين.
الأثر النفسي لهذا “التنمر الذاتي” بالغ العمق. فالأشخاص الذين يطورون هذا الصوت الداخلي القاسي غالبًا ما يُعانون من:
انخفاض تقدير الذات
القلق الاجتماعي
الاكتئاب
الميل إلى العزلة أو الانسحاب
سلوكيات مدمّرة للذات مثل الأكل القهري أو الإدمان أو إيذاء النفس
وتؤكد فريزر أن هذا النمط ليس ضعفًا في الشخصية، بل هو استجابة عصبية منطقية لتجارب مؤلمة متكررة. الدماغ الذي تعرض للإهانة والرفض والتقليل من الشأن، يُنتج نظامًا داخليًا يتوقع الفشل، ويُشكك في الحب، ويخاف من النجاح لأنه لا يعرفه.
لكن الكاتبة لا تقف عند التشخيص، بل تطرح إمكانية تفكيك هذا الصوت الداخلي السام، من خلال إعادة برمجة الدماغ بنمط جديد من التفكير والتعاطف الذاتي. تبدأ هذه العملية، بحسب فريزر، من الوعي: أن ننتبه لهذا الصوت، أن نميّزه عن ذاتنا الحقيقية، وأن ندرك أن الكثير من “أفكارنا” ليست أفكارًا حرة، بل صدى لأصوات الآخرين الذين آذونا.
وتقترح مجموعة من الأدوات لإعادة تشكيل الدماغ في هذا السياق، منها:
كتابة “يوميات الصوت الداخلي”، لتتبع كيف ومتى يظهر، وماذا يقول.
استخدام تقنيات “إعادة الصياغة المعرفية”، لتفنيد هذه الأصوات وتشكيكها بدل قبولها.
التدريب على الرحمة الذاتية (Self-Compassion)، التي تتضمن الحديث مع الذات بنفس الحنان الذي نمنحه لصديقٍ مجروح.
تقنيات التأمل الواعي (Mindfulness)، التي تُساعد على فصل الأفكار عن الهوية.
إشراك الدوائر الداعمة – سواء الأصدقاء أو المعالجين – في بناء خطاب بديل أكثر دعمًا وتقبّلاً للذات.
وتختم فريزر هذا الفصل بدعوة مؤثرة: أن لا نُطيل الإقامة في ماضي المتنمّرين، وأن ننتبه إلى ما إذا كنا قد أصبحنا “صوتهم الداخلي” بأنفسنا. لأن أقسى أنواع التنمر ليست دائمًا تلك التي تُقال بصوت مرتفع، بل تلك التي تُهمَس داخلنا كل صباح.
إن تحرير الإنسان من هذا الصوت السام هو في جوهره عمل عصبي، وعاطفي، وروحي. إنه إعادة بناء لهوية تجرأت الحياة أن تُمزقها، والبدء من جديد من مكان الرحمة لا مكان الخوف.
الفصل الخامس: علم الشفاء – المرونة العصبية كأمل
بعد أن ترسم جنيفر فريزر في الفصول الأولى ملامح الدماغ المجروح بفعل التنمر، تنتقل في هذا الفصل إلى الجانب الأكثر تفاؤلًا في سرديتها: الشفاء. ما يُميز هذا الجزء من الكتاب هو أنه لا يقف عند التحليل أو التشخيص، بل يُقدّم أدوات واستراتيجيات مستمدة من علم الأعصاب لإعادة بناء ما تم كسره. الكلمة المفتاحية هنا هي: المرونة العصبية (Neuroplasticity).
تشير المرونة العصبية إلى قدرة الدماغ على التغيّر وإعادة تشكيل نفسه استجابةً للتجارب والخبرات. وهذه القدرة لا تقتصر على الأطفال أو صغار السن، بل تستمر مدى الحياة، وإن كانت أكثر وضوحًا في مراحل عمرية معينة. فريزر تؤكد أن هذا الاكتشاف العلمي ليس مجرد فضول أكاديمي، بل هو رسالة أمل عملية لكل من تأذى يومًا: “دماغك قادر على التعافي. لكن الأمر يحتاج إلى وعي، ومثابرة، وبيئة آمنة”.
في هذا الفصل، تعرض الكاتبة عددًا من الأساليب التي أثبتت الدراسات أنها تفعّل آليات الشفاء العصبي. أبرز هذه الأساليب:
- العلاقات الداعمة
العلاقات الإنسانية الآمنة هي واحدة من أقوى العوامل التي تُعزز الشفاء. فالدماغ المتألم يحتاج إلى “مضاد للتنمر”، وهذا المضاد ليس دواءً كيميائيًا، بل علاقة تشعر فيها بأنك مقبول، مسموع، ومحبوب دون شروط. فريزر تنقل عن أطباء أعصاب قولهم: “العلاقات الآمنة تعيد تنظيم الدماغ”، وهذا ليس مجازًا، بل حقيقة علمية قابلة للقياس. - التأمل الواعي (Mindfulness)
التأمل ليس مجرد وسيلة للاسترخاء، بل أداة عصبية تُعيد توصيل المسارات بين مراكز الانتباه، والانفعالات، والذاكرة. تشير الدراسات إلى أن ممارسة التأمل لمدة 10–20 دقيقة يوميًا يمكن أن تقلل من نشاط اللوزة الدماغية، وتزيد من كثافة المادة الرمادية في القشرة الجبهية. وهو ما ينعكس في هدوء داخلي، وقوة في مواجهة التوتر. - الحركة الجسدية المنتظمة
التمارين الرياضية ليست فقط لصحة القلب والعضلات، بل هي أيضًا وسيلة فعالة لتعزيز نمو الخلايا العصبية، وزيادة إفراز “BDNF” (عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ)، وهو عنصر حاسم في بناء الروابط العصبية الجديدة. حتى المشي اليومي أو ممارسة اليوغا يمكن أن يكون له تأثير بالغ في تحسين المزاج وتنظيم الانفعالات. - الحديث مع الذات وتغيير الحوار الداخلي
تعليم الدماغ التحدث بلغة جديدة – لغة لا تقوم على اللوم والخوف – هو مهارة تُكتسب. فريزر تؤكد أن العقل يمكن تدريبه على أن يُصبح “صديقًا لا خصمًا”، من خلال ممارسة التعاطف الذاتي، والامتنان، والتفكير الإيجابي المنظم. هذه ليست شعارات، بل ممارسات تُعيد تشكيل المسارات العصبية تدريجيًا. - التغذية والنوم
تولي الكاتبة أهمية كبيرة للعوامل البيولوجية المرتبطة بالدماغ، مثل نمط التغذية، وجودة النوم، وتنظيم الإيقاع اليومي. فالنوم العميق، مثلًا، هو الوقت الذي يقوم فيه الدماغ “بالتنظيف الذاتي”، حيث تُزال السموم وتُقوى الذاكرة وتُستعاد الطاقة العقلية. أي اضطراب في هذا الجانب يُعيق الشفاء العصبي.
تُضيف فريزر أن الشفاء لا يحدث بسرعة، بل هو عملية تراكمية. الدماغ، مثل أي عضلة أصيبت، يحتاج إلى إعادة تأهيل عصبي، تتضمن الصبر، والخطوات الصغيرة، والاحتفاء بالتحسّن، مهما كان بسيطًا.
وتُبرز نقطة محورية: لا يكفي أن “نتوقف عن التعرض للأذى”، بل يجب أن نُغذّي الدماغ بخبرات إيجابية مضادة. تمامًا كما أن الصوت الداخلي السلبي نتج عن خبرات مدمرة، فإن استعادة الثقة بالنفس والتوازن تحتاج إلى تجارب مضادة تُعيد تعريف الذات والواقع.
في نهاية الفصل، تُشبّه الكاتبة الدماغ المتنمَّر بالعضو المصاب الذي لا يُشفى تلقائيًا، لكنه قادر على التعافي الكامل إذا وُضِع في بيئة رعاية وتغذية وإعادة تدريب. وتكتب:
“الدماغ لا يُعاقب من يخطئ. بل يكافئ من يثابر. إنه قابل للتغيير دومًا. وهذا هو الأمل.”
الفصل السادس: أدوات الاستعادة – كيف نعيد بناء الدماغ؟
بعد أن عرضت جنيفر فريزر في الفصل السابق مفهوم المرونة العصبية كإمكانية واقعية للتعافي من آثار التنمر، تنتقل في هذا الفصل إلى الجانب التطبيقي، حيث تُفصّل مجموعة من الأدوات والتمارين اليومية التي يمكن من خلالها تحفيز شفاء الدماغ. إنها لا تتحدث عن حلول سحرية أو تدخلات معقدة، بل عن ممارسات بسيطة، لكنها منتظمة وعميقة الأثر.
ما يُميز هذا الجزء من الكتاب هو تركيزه على التمكين الذاتي. فالرسالة التي تريد الكاتبة إيصالها واضحة: “أنت لست عاجزًا. دماغك ليس محكومًا بماضيك. يمكنك إعادة تشكيله. وهذه الأدوات بين يديك.”
أولًا: بناء “ممارسات إصلاحية” يومية
تدعو فريزر القارئ إلى أن يُعامل دماغه كما يُعامل عضلة مجروحة. فالتعافي ليس موقفًا عاطفيًا، بل عملية تتطلب ممارسة يومية لعدد من العادات المصممة لإعادة تدريب الدماغ. تقترح ما تسميه “روتين الشفاء العصبي”، يتضمن:
5 دقائق من الصمت الذهني أو التأمل الصباحي: بهدف تهدئة الجهاز العصبي وتقليل مستويات الكورتيزول.
جملة دعم ذاتي مكتوبة أو منطوقة يوميًا: مثل “أنا أتعلم أن أكون لطيفًا مع نفسي”، أو “أنا أستحق الأمان والاحترام”.
حركة جسدية ولو خفيفة: تمارين التمدد أو المشي، لتحفيز النشاط العصبي وتدفق الدم.
مذكرات الامتنان: حيث يُكتب كل يوم شيء إيجابي حدث، مهما كان بسيطًا، لتدريب الدماغ على الانتباه للمحفزات الإيجابية لا السلبية فقط.
تخصيص لحظة من اليوم لربط علاقة آمنة: مكالمة، حضن، رسالة تقدير؛ لأن العلاقات الجيدة هي “مغذيات عصبية” كما تصفها الكاتبة.
ثانيًا: إعادة صياغة السرد الداخلي
ترى فريزر أن أحد أقوى أشكال التنمر هو ذلك الذي يُمارسه الإنسان ضد نفسه من خلال سرديات داخلية مشوّهة، مثل: “أنا فاشل”، “لن يحبني أحد”، أو “أنا السبب في كل ما حدث”. وتؤكد أن هذه السرديات ليست الحقيقة، بل انعكاسات لما غُرس في اللاوعي نتيجة تجارب سابقة.
وتقترح الكاتبة تقنيات مستمدة من العلاج السلوكي المعرفي (CBT) وعلوم الأعصاب الحديثة لمواجهة هذه الأصوات، منها:
التشكيك المنهجي في الفكرة السلبية: هل هي حقيقة؟ من أين جاءت؟ هل سأقولها لصديق؟
استبدالها بجملة منصفة: ليست إيجابية زائفة، بل متوازنة مثل: “أخطأت، لكنني أتعلم”، أو “تجاربي لا تُلخّصني”.
التحدث مع الذات بصوت مسموع: لتفعيل مسارات سمعية–حركية تُقوي الرابط بين القول والشعور.
ثالثًا: “إعادة البرمجة العاطفية” عبر الخيال
من الوسائل الإبداعية التي تقترحها فريزر استخدام الخيال الموجّه كأداة لإعادة بناء تجربة الأمان. على سبيل المثال، يُطلب من الشخص تخيّل نفسه في موقف تنمّر سابق، لكن مع إضافة عناصر جديدة:
صوت داعم من شخصية يحبها
تدخل حازم من شخص بالغ
رد فعل أكثر ثقة منه نفسه
الهدف من ذلك ليس الهروب من الواقع، بل منح الدماغ خبرة جديدة على المستوى العصبي، وكأنها تعيد بناء المسار الذي تضرر سابقًا.
رابعًا: بيئة الشفاء – المكان والدعم
تؤكد فريزر أن لا فائدة من كل الأدوات السابقة إذا استمر الإنسان في العيش داخل بيئة سامة. وتدعو بوضوح إلى:
قطع العلاقة مع مصادر الإذلال أو التخويف المزمن، حتى لو كانت علاقات عائلية.
البحث عن “دوائر الشفاء” لا “دوائر العار”، سواء كانت مجموعة دعم، صديقًا موثوقًا، أو معالجًا نفسيًا.
إعادة تصميم المنزل أو المكتب بطريقة تُشعر بالأمان والاحتواء، لأن الدماغ يتفاعل مع الإشارات المكانية كما يتفاعل مع الكلمات.
خامسًا: الانفتاح على التجارب الجديدة
من الركائز المهمة في إعادة تشكيل الدماغ، بحسب الكاتبة، هو أن يُعرّض الإنسان نفسه لتجارب إيجابية جديدة: تعلم مهارة، مشاركة في مشروع تطوعي، خوض تحدٍ إبداعي. لأن هذه الخبرات تُنشّط الدماغ، وتبني مسارات بديلة عن تلك المرتبطة بالألم والعجز.
في ختام هذا الفصل، تُذكّر فريزر أن أدوات الشفاء لا تحتاج إلى مختبر أو وصفة طبية، بل إلى وعي ومثابرة. وهي لا تعد بالشفاء السريع أو الكامل، لكنها تؤمن أن كل يوم يُمارَس فيه التعاطف الذاتي بوعي هو خطوة نحو بناء دماغ أكثر أمانًا وتوازنًا.
الفصل السابع: دروس من الواقع – شهادات وتجارب
بعد أن قدّمت جنيفر فريزر في الفصول السابقة الأسس العلمية لأثر التنمر على الدماغ، وآليات الشفاء العصبي، تأتي في هذا الفصل بشهادات وتجارب حية تؤكد وتُجسّد ما طرحته من نظريات. هذه القصص ليست مجرد توثيق، بل هي مرآة للواقع، تكشف كيف يمكن أن تكون الكلمات أدوات هدم، وكيف يمكن للتعاطف والعلم أن يصبحا أدوات ترميم.
ما يُميّز هذا الفصل هو الطابع الإنساني العميق، إذ تفسح الكاتبة المجال لأصوات من مرّوا بتجارب التنمر: أطفال، مراهقون، معلمون، موظفون، وحتى مديرون تنفيذيون. بعضهم ما زال يعاني، وبعضهم تمكّن من تجاوز ألمه وتحويله إلى دافع للتمكين والتغيير.
أصوات من داخل المدارس
تنقل فريزر شهادة تلميذة ذكية وحساسة كانت تتعرض للإحراج الدائم من أحد معلميها أمام الصف، كلما ارتبكت أو تأخرت عن إجابة. تقول الطفلة إنها بدأت تفقد قدرتها على التفكير عند دخول الحصة، ثم فقدت اهتمامها بالدراسة تمامًا، وشعرت بأنها “غير مرئية إلا حين يُسخر منها”. بعد سنوات، خضعت لجلسات علاج نفسي، وتم تصوير دماغها ضمن دراسة بحثية، ليتبين وجود نشاط مفرط في مراكز الخوف لديها.
وفي حالة أخرى، تروي معلمة متمرسة كيف كانت تراقب طالبًا هادئًا ينسحب تدريجيًا من المشاركة، قبل أن تكتشف أنه يتعرّض لتنمر لفظي حاد من زميله، دون أن يُبلّغ أحدًا. الطفل قال لاحقًا: “ظننت أن لا أحد سيصدقني، وأنه يجب أن أتحمّل”.
العمل كبيئة لإعادة التنمر
تشير الكاتبة إلى شهادات موظفين تعرضوا لما يُعرف بالتنمر الإداري: إهمال متعمّد، سخرية في الاجتماعات، أو تجاهل لجهودهم. إحدى الموظفات تحدثت عن شعورها اليومي وكأنها “تنتظر الضربة التالية”، وقالت: “كنت أرتجف داخليًا كل صباح وأنا أفتح بريدي الإلكتروني”. لاحقًا، عانت من اضطراب قلق حاد، وشُخصت حالتها بأنها شبيهة بأعراض الصدمة (Trauma-related disorder).
أصوات ناجية – استعادة القوة
لكن ليست كل القصص مظلمة. فريزر تعطي حيزًا كبيرًا لأصوات الذين تحرروا من “الدماغ المتنمَّر”، ونجحوا في إعادة كتابة قصتهم. أحدهم، كان مراهقًا عانى من تنمر طويل بسبب مظهره الجسدي، لكنه – بعد سنوات من العلاج والدعم – أصبح مستشارًا نفسيًا للأطفال. قال: “اكتشفت أن الجرح يمكن أن يكون بابًا للرحمة”.
كما تنقل تجربة امرأة قررت مواجهة مديرها المتنمّر، وطلبت تدخلًا قانونيًا، ثم غيّرت مجال عملها كليًا لتصبح مدربة في بيئة تضع السلامة النفسية في جوهر ثقافتها. تقول: “حين عرفت كيف يعمل الدماغ تحت الضغط، عرفت أيضًا أن بإمكاني استعادته لنفسي”.
الشهادة كفعل مقاومة
في هذا الفصل، تعتبر فريزر أن رواية التجربة ليست مجرد فضفضة، بل فعل مقاومة. حين يتحدث من تعرّضوا للتنمر عن قصتهم، ويُسمّون ما حدث بوضوح وبدون تبرير، فإنهم يواجهون ثقافة الصمت واللوم التي تحيط بالضحايا غالبًا.
ولأن التنمر يعمل في الظل، فإن النور الذي يجلبه السرد الصادق يُعد خطوة أولى نحو تفكيكه. ولذلك، تشجّع الكاتبة القارئ على أن يكتب قصته، أو يُشاركها مع من يثق به، أو حتى يُحاكي ذاته القديمة برسالة تعاطف ودعم.
العِبَر المستخلصة
في نهاية هذا الفصل، تلخص فريزر ما تبيّنه القصص الواقعية:
التنمر يُصيب الجميع، بغض النظر عن السن أو الجنس أو المنصب.
كثير من ضحاياه لا يُدركون أن ما مرّوا به كان تنمرًا حقيقيًا.
الشفاء ممكن، لكنه يبدأ أولًا بتسمية الألم والاعتراف به.
المجتمع – إن لم يكن واعيًا – يُعيد إيذاء الضحية عبر الشك أو التقليل من شأن التجربة.
رواية القصة هي جزء من العلاج، وجزء من التغيير.
بفضل هذه التجارب، يصبح العلم الذي طُرح في الفصول السابقة قابلاً للمس والتصديق. فلا شيء يُجسّد الحقائق مثل شهادة من عاشها بجسده، ودماغه، وروحه.
الفصل الثامن: من ضحية إلى قائد – إعادة كتابة السرد الشخصي
في هذا الفصل الحاسم من كتاب The Bullied Brain، تطرح جنيفر فريزر سؤالًا مفصليًا:
“هل يمكن لمن تعرّض للتنمر، وتشوّهت صورته عن نفسه، أن يتحول إلى قائد ومرشد ومصدر أمان لغيره؟”
تجيب الكاتبة بنعم، لكن بشرط: أن يستعيد الإنسان سلطة السرد. فالقوة الحقيقية، كما تقول، لا تأتي من نفي الماضي أو نسيانه، بل من إعادة روايته من موقع الفهم والوعي والسيطرة.
تستند فريزر في هذا الفصل إلى مفاهيم من علم السرد العلاجي (Narrative Therapy)، الذي يرى أن الطريقة التي يروي بها الإنسان قصته تؤثر على هويته، وسلوكه، وقدرته على الشفاء. الضحية، في هذا السياق، ليست من وقعت عليه التجربة فقط، بل من احتُجز داخل سردية سلبية مكررة: “أنا ضعيف”، “أنا غير كافٍ”، “أنا السبب”، “أنا بلا قيمة”.
وتُميز الكاتبة بين نوعين من السرد:
سردية خاضعة، يُمليها صوت المتنمّر، وتُعيد إنتاج الألم والعار.
وسردية مُمَكِّنة، يُعيد فيها الفرد تعريف ذاته كناجٍ، كمُقاوم، كصاحب إرادة في إعادة البناء.
لكن هذا التحوّل لا يحدث فجأة، بل هو نتيجة لتغيّر في نشاط الدماغ نفسه. فحين يبدأ الشخص بوعي في إعادة تأطير الأحداث، واستحضار جوانب القوة والنجاة، يبدأ الدماغ ببناء وصلات جديدة تُترجم إلى شعور بالسيطرة، والانتماء، والتماسك الداخلي.
إعادة كتابة القصة: من “أنا مكسور” إلى “أنا صامد”
تدعو فريزر القارئ إلى أن يخوض تمرينًا بسيطًا لكنه فعّال:
أن يكتب قصة ما مرّ به – بكامل صدقه – ثم يعيد كتابتها من زاوية جديدة:
ما الذي تعلمته؟
من الذي ساندني ولو قليلًا؟
ما القوة التي كانت لديّ ونجت بي؟
كيف تغيرت بسبب التجربة، لا كمجرد ضحية، بل ككائن يملك وعيًا أكبر اليوم؟
وتُشير إلى أن هذا الفعل البسيط له أثر مباشر على مراكز الانفعالات في الدماغ. فالإفصاح المنظم والواعي يخفف من فرط نشاط اللوزة الدماغية، ويُنشط مراكز التنظيم والانتباه، ويمنح الشخص إحساسًا بأنه صانع السرد لا أسيره.
القيادة تبدأ من الوعي
ترى فريزر أن من مرّ بتجربة التنمر وتمكّن من تجاوزها بوعي، هو الأكثر أهلية لفهم الآخرين، وقيادتهم، وإحداث تغيير حقيقي. لكن هذا لا يعني أن كل ناجٍ يجب أن يصبح “ناشطًا” أو “مدربًا”، بل أن القيادة تبدأ حين تُعامل ذاتك من موقع الاحترام والرحمة، وحين تُعطي تجربتك معنى أوسع.
وتعرض الكاتبة نماذج لأشخاص عاشوا تجارب أليمة وتحولوا إلى صوت للآخرين: معلمون غيروا أساليبهم، مديرون أعادوا تصميم مؤسساتهم، آباء كسروا حلقات القسوة الوراثية، وطلاب قادوا حملات ضد التنمر الرقمي.
هؤلاء، كما تصفهم، “أعادوا كتابة القصة، ثم بنوا العالم على ضوء جديد”.
الهوية بعد الألم
تُبيّن الكاتبة أن أحد أخطر آثار التنمر هو تمزيق الهوية: أن لا تعرف من أنت بعد الألم. لكن حين يبدأ الإنسان في استعادة صوته الداخلي، وتحرير نفسه من السرديات المسمومة، تتجدد هويته ليس كضحية، بل كناجٍ صاحب بصيرة. وهو ما يُترجم إلى سلوكيات جديدة: ثقة بالنفس، حس فكاهي صحي، حدس اجتماعي ناضج، وربما، رغبة في خدمة الآخرين.
وتُصرّ الكاتبة على نقطة محورية: لا يجب أن يكون الشفاء كاملًا أو الألم قد انتهى حتى يُسمح للشخص بأن يصبح قائدًا. بل يمكن أن يحدث الأمران بالتوازي: أن نُداوي ونحن نساعد، أن نتعافى ونحن نرشد، أن نرتب شتاتنا ونحن نمسك بيد غيرنا.
في نهاية الفصل، تُعيد فريزر التأكيد على أن استعادة السرد الشخصي هي قلب عملية التعافي من التنمر. إنها ليست فقط استرجاعًا للكرامة، بل تحوّل في البنية العصبية والرمزية للذات. ومن هذا التحوّل، تُولد القيادة الجديدة.
الفصل التاسع: إصلاح المؤسسات – مقترحات منهجية للتغيير
بعد أن عرضت جنيفر فريزر في فصول سابقة أثر التنمر على الدماغ والأفراد، والطرق التي يمكن بها شفاء هذا الضرر على المستوى الشخصي، توجه في هذا الفصل اهتمامها إلى البيئات التي تنتج التنمر وتعيد تدويره. فهي ترى أن الشفاء الفردي – على أهميته – لا يكتمل دون تحول مؤسسي، لأن كثيرًا من الجراح النفسية والعصبية التي يعاني منها الناس لا تأتي من فراغ، بل من مؤسسات مفترض أنها مسؤولة عن الحماية والرعاية: مدارس، جامعات، شركات، وحتى مؤسسات أسرية.
تفتتح فريزر هذا الفصل بفكرة جوهرية:
“نحن نُحمّل الأفراد مسؤولية الألم، بينما المشكلة غالبًا ما تكون في الأنظمة التي ترعرعوا داخلها.”
وتُشبّه المؤسسات بأنظمة عصبية مصغّرة: كل فرد فيها بمثابة خلية عصبية، والسلوكيات هي الروابط بينها. فإذا كانت هذه الروابط قائمة على الخوف، القسوة، المنافسة السامة، أو الإذلال، فإن المؤسسة كلها تعمل كـ”دماغ متنمِّر” يُكرّر إنتاج الألم في دوائر لا تنتهي.
ملامح المؤسسة المتنمِّرة
تُحدد فريزر سمات الأنظمة التي تعزز التنمر أو تتواطأ معه، منها:
غياب المساءلة: خاصة حين يكون المعتدي في موقع سلطة.
ثقافة الصمت: حيث يُنظر للإبلاغ عن التنمر على أنه ضعف أو خيانة.
تطبيع العنف اللفظي أو التحقير باسم “الانضباط” أو “التنافس”.
عدم وجود سياسات واضحة لحماية الصحة النفسية.
مكافأة السلوك العدواني المقنَّع على أنه “قوة” أو “صرامة”.
هذه السمات تجعل البيئة خصبة لتفاقم التنمر، وتحول دون تعافي الأفراد، مهما كانت قدراتهم الذاتية.
المؤسسة كأداة للشفاء
لكن بالمقابل، ترى فريزر أن المؤسسة يمكن أن تتحول إلى مُعالج جماعي، إذا توفرت فيها شروط معينة، منها:
الاعتراف بالمشكلة علنًا: أي أن تعلن المؤسسة التزامها بسياسات مكافحة التنمر، وتُقرّ بأن المسألة ليست فردية بل بنيوية.
تعليم علم الأعصاب للعاملين فيها: إذ تؤكد فريزر أن معرفة تأثير الكلمات والسلوكيات على الدماغ يجعل الموظفين والمعلمين أكثر وعيًا بمسؤوليتهم.
إدراج مفهوم “السلامة العصبية” (Neuro-safety) في بيئة العمل والتعليم: أي أن يشعر كل فرد بأنه مسموع، وآمن، ومُحترم، دون خوف من التهديد أو السخرية.
تبنّي قيادة مبنية على الرحمة لا التسلط: فالقادة الذين يفهمون أن أداء الدماغ مرتبط بالأمان العاطفي يكونون أكثر قدرة على تحفيز الإبداع والولاء.
توفير قنوات حماية فعالة: تسمح بالإبلاغ عن الأذى دون انتقام، وتُعطي الأولوية للضحية لا للمعتدي.
إعادة تصميم السياسات الإدارية والتربوية لتقليل التراتبية القاسية، وتمكين ثقافة التعاون والعدالة.
التجديد من الداخل
تؤمن الكاتبة أن التحول الحقيقي لا يكون بفرض قواعد من الخارج، بل بـ”تغذية” المؤسسات بقيم جديدة. وهذا يعني:
إعادة النظر في تعريفات النجاح والتفوق.
مراجعة أساليب العقاب والانضباط.
إنشاء برامج تدريب مستمرة حول الذكاء العاطفي، والوعي العصبي، ومهارات التواصل الداعم.
وتستشهد بنماذج لمؤسسات تعليمية وشركات بدأت بتطبيق هذه المبادئ، ولاحظت انخفاضًا في معدلات الغياب، وتحسنًا في الإنتاجية، وزيادة في الشعور بالانتماء بين الأعضاء.
إصلاح يبدأ من القمة… ويستمر بالثقافة
تشدد فريزر على أن أي إصلاح مؤسسي حقيقي يجب أن يبدأ من القيادة العليا. فإذا لم يكن القادة ملتزمين بتغيير الثقافة، فستظل السياسات حبراً على ورق. لكن التغيير لا يقف عند القمة، بل يُرسّخ من خلال بناء ثقافة جماعية ترى الكرامة قيمة لا تقبل المساومة.
في نهاية هذا الفصل، تُلخّص الكاتبة رؤيتها في جملة واحدة:
“إذا كان التنمر مؤسسة، فالشفاء يجب أن يكون مؤسسيًا أيضًا.”
فالمجتمعات التي تأمل في أن تربي أطفالًا أصحاء، وتُدير مؤسسات مزدهرة، يجب أن تبدأ من الداخل: من الطريقة التي تُعامل بها البشر كل يوم، في الاجتماعات، في الصفوف، في الممرات، وفي كل مساحة فيها صوت وله صدى في الدماغ.
الفصل العاشر: دعوة للتحرر – المستقبل يبدأ من الدماغ
في هذا الفصل الختامي، تجمع جنيفر فريزر خيوط كتابها لتطرح رسالة واضحة وجريئة:
“التحرر من آثار التنمر ليس هدفًا فرديًا فقط، بل مشروع مجتمعي يبدأ من أعمق نقطة فينا: أدمغتنا.”
تستعرض الكاتبة هنا ليس فقط ما يجب علينا فعله، بل لماذا علينا أن نفعله الآن. لأن جراح التنمر لا تختفي مع الوقت، ولا تُمحى بالتجاهل، بل تتغلغل في طريقة تفكيرنا، علاقاتنا، ومؤسساتنا. وحين تظل هذه الجراح بلا تسمية أو معالجة، فإنها تُعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال، في أنماط التربية، والإدارة، والتعليم، وحتى الخطاب العام.
تؤكد فريزر أن الفهم العصبي الحديث لا يترك مجالًا للشك: التنمر يغيّر الدماغ. لكنه، في الوقت نفسه، يُعطينا سلاحًا لا يُقدر بثمن: المرونة العصبية، أي قدرة الدماغ على التعافي وإعادة التشكيل. وهذا الاكتشاف ليس فقط بارقة أمل للضحايا، بل هو دعوة إلى تغيير الثقافة من جذورها.
مستقبل الصحة النفسية يبدأ من علم الدماغ
ترى الكاتبة أن مستقبل التربية والصحة النفسية لن يكون فعالًا ما لم ندمج فيه مفاهيم من علوم الأعصاب. المعرفة الجديدة يجب ألا تبقى في المختبرات والمقالات العلمية، بل يجب أن تُصبح لغة نتحدث بها في البيوت والمدارس وأماكن العمل.
إذا أدركنا – مثلًا – أن الطفل الذي يخطئ قد يفعل ذلك تحت ضغط عصبي، وأن الموظف العدواني ربما يكرر نمطًا عصبيًا نشأ في بيئة قاسية، فإن تعاملنا مع الآخر سيتحوّل من إصدار الأحكام إلى فهم السياق العصبي–النفسي خلف السلوك.
تؤمن فريزر أن هذا التحول في الفهم هو أول خطوة نحو التحرر. لأن التحرر الحقيقي لا يكون فقط من المتنمّر، بل من:
الصوت الداخلي الذي زرعه.
السردية التي علّقنا بها.
البنية الدماغية التي كوّنها الخوف والعار.
كيف يبدو التحرر العملي؟
تقدم الكاتبة بعض الخطوات التأملية التي تُلخّص الرحلة التي مر بها القارئ:
سمِّ الجرح: لا تتظاهر أن ما حدث لم يكن تنمرًا. التسمية بداية التحرر.
افصل بينك وبين الصوت الداخلي المؤذي: هو ليس أنت. بل صدى شخص آخر.
تدرب على الرحمة الذاتية كما تتدرب على لغة جديدة: بصبر، وبتكرار، وبدون خجل.
لا تنتظر إذنًا لتشفى: أنت لست بحاجة إلى اعتذار من المعتدي لتبدأ شفاءك.
اجعل من قصتك مصدر قوة، لا عار: قلها بصوتك. واكتبها إن استطعت. لأن القصة حين تُروى من جديد، لا تعود تُسيطِر.
ابحث عن بيئات تُعيد برمجة دماغك بالأمان: سواء كانت مكان عمل داعم، أو صديقًا صادقًا، أو حتى مساحة تأمل خاصة بك.
شارك المعرفة: كن حلقة في سلسلة تغيير الوعي الجمعي.
تغيير يبدأ من الداخل… ويصعد للخارج
تختم فريزر كتابها برسالة شخصية موجهة إلى كل من شعر يومًا بأنه “مكسور” أو “غير كافٍ” بسبب تجربة تنمّر. تقول:
“ليس الخطأ فيك. بل في الأصوات التي تعلّمت أن تُقيمك بأدوات السخرية والسلطة. لقد بُني دماغك ليتعافى، ليتعلم، وليعيد كتابة نفسه. والمستقبل الذي نريده لأنفسنا وأطفالنا يبدأ من هنا: من تحرير أدمغتنا من الخوف، ومن إعادة تعليمها أن تستحق الحب، والكرامة، والحرية.”
وهكذا، لا يُغلق الكتاب فقط بصفحة أخيرة، بل يفتح نافذة نحو مشروع حياة جديد: أن نكون أكثر وعيًا بكيفية تأثير كلماتنا وسلوكنا على الآخرين، وأن نضع في كل علاقة نمارسها جرعة من الرحمة، لأن الدماغ لا ينسى، لكنه أيضًا لا ينسى اللطف.
خاتمة عامة عن الكتاب
The Bullied Brain ليس كتابًا تقليديًا عن التنمر، بل هو عمل يجمع بين العلم، والتجربة الإنسانية، والدعوة إلى التحول الثقافي. تقودنا جنيفر فريزر عبر رحلة تبدأ من الألم، وتمضي عبر الوعي، وتنتهي في أفق مفتوح على الشفاء والتغيير.
لقد أظهر هذا الكتاب أن التنمر ليس مجرد تجربة سيئة، بل “إصابة عصبية” حقيقية، وأن الشفاء منها ممكن، بل ضروري. لكنه لا يحدث في العزلة أو الإنكار، بل في مساحات الأمان والصدق والمعرفة.
إن من يقرأ هذا الكتاب، ويفهمه، لن يعود يتعامل مع الألم النفسي كما اعتاد. سيعرف أن الدماغ يتكلم بلغة الجروح، لكنه أيضًا يتقن لغة الشفاء.
التحليل النقدي لكتاب The Bullied Brain
✅ نقاط القوة
- الجمع بين العلم والسرد الإنساني
يُعدّ هذا الكتاب من الأعمال النادرة التي تنجح في دمج علم الأعصاب المتقدم مع السرد القصصي الواقعي. فالكاتبة لا تكتفي بعرض نظريات علمية، بل تُرفقها بشهادات وتجارب مؤثرة، مما يجعل القارئ يفهم الأثر العصبي للتنمر بعمق عاطفي ومعرفي في آنٍ واحد. - لغة ميسّرة رغم تعقيد الموضوع
تُحسَب لفريزر قدرتها على تبسيط مفاهيم عصبية معقدة دون تسطيحها. تستخدم لغة واضحة مدعومة بالأمثلة اليومية، ما يجعل الكتاب في متناول القارئ العام والمختص على حد سواء. - دعوة عملية للتغيير المجتمعي
الكتاب لا يكتفي بالنقد، بل يُقدّم خطة واقعية للتغيير تبدأ من الفرد وتنتهي بالمؤسسة. فريزر لا تطرح الشفاء كحالة نفسية فقط، بل كمشروع ثقافي عصبي يجب أن تتبناه المدارس، وأماكن العمل، والأسر. - مفهوم “الدماغ المتنمَّر” كابتكار لغوي وذهني
ابتكار مصطلح “The Bullied Brain” يُعد مساهمة مهمة في الخطاب التربوي والعصبي، لأنه يُعيد صياغة التجربة النفسية بشكل بيولوجي، مما يُعطيها شرعية طبية ويُزيل الوصمة عنها.
❗️نقاط الضعف
- الاعتماد الكبير على التجربة الشخصية
رغم أن التجربة الشخصية تضيف صدقًا وشحنة عاطفية، إلا أن الكتاب في بعض أجزائه يميل إلى الذاتية المفرطة، حيث تنشغل الكاتبة أحيانًا بمواقفها وتفاعلاتها الخاصة على حساب التحليل البنيوي الأوسع. - محدودية في التنوع الثقافي
الكتاب يعكس بشكل كبير الثقافة الكندية–الأمريكية من حيث طبيعة المؤسسات، أساليب التنمر، وتوصيف السياقات. قلة الأمثلة من ثقافات أخرى تحد من عالميته، ولا يأخذ في الاعتبار كيف تتجلى أشكال التنمر واختلال السلطة في البيئات غير الغربية. - الجانب العلمي أحيانًا غير مفصَّل بما يكفي
رغم ذكر عدد كبير من الدراسات، لا توجد دائمًا إحالات دقيقة للأبحاث (مثل تاريخ النشر، جهة الدراسة، العينة)، ما قد يجعل بعض القراء المتخصصين يشككون في دقة بعض الادعاءات أو يطلبون مزيدًا من التوثيق العلمي. - فجوة في طرح الحلول للبالغين داخل بيئات سامة
يركز الكتاب بشكل جيد على الأطفال والمراهقين والطلاب، لكن حين يتحدث عن أماكن العمل، لا يُقدّم حلولًا كافية وعملية للبالغين المحاصرين داخل مؤسسات قمعية، بل يميل إلى نصائح عامة دون منهجية صلبة.
💡 فرص تطوير أو استكمال
إصدار دليل عملي مرافق للمدارس أو المؤسسات لتطبيق توصيات الكتاب.
إنتاج نسخة مُخصصة للقارئ العالمي، تُراعي الاختلافات الثقافية والتعليمية.
دمج أدوات تقييم ذاتي في نهاية الفصول، لتشجيع القارئ على تأمل تجاربه.
توسيع النقاش ليشمل العلاقة بين التنمر والعوامل مثل العرق، الطبقة، الجندر.
📚 القيمة الأكاديمية والاجتماعية
الكتاب يُعد مرجعًا رائدًا في مجال التقاطع بين علم الأعصاب والتعليم، ويُفيد العاملين في الصحة النفسية، والتربية، وتطوير القيادة المؤسسية.
يعزز شرعية الألم النفسي بربطه بالدماغ، ما يُساعد على تقليل وصمة الضعف، خاصة بين الأطفال والمراهقين الذكور.
يُسلط الضوء على مسؤولية المؤسسات في الحماية لا العقاب، مما يُمهّد لإعادة صياغة السياسات التعليمية والإدارية.
⚖️ الخلاصة النقدية
The Bullied Brain كتاب جريء، يُحدث تحولًا في طريقة فهمنا للتنمر وآثاره. يُبشّر بعصر جديد من التربية المستندة إلى العلم، لكنه ليس دون ثغرات. قوته في لغته الإنسانية، وربما تكون نقاط ضعفه امتدادًا لهذه القوة نفسها. إنه كتاب يوقظ، ويطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة نهائية، ولهذا تحديدًا… يستحق أن يُقرأ.
اترك تعليقاً