يعيش الميدان التربوي هذه الأيام مرحلة انتقالية تاريخية، وتحولا نوعيا بإقرار نموذج “تمكين المدارس والاعتماد المدرسي”.
يأتي هذا البرنامج ضمن خطة التحول الوطنية وبرنامج تنمية القدرات البشرية، أحد برامج تحقيق رؤية 2030، الذي يهدف إلى تعزيز تنافسية المواطن عالميا وبناء استراتيجية طموحة لتنمية قدرات المواطن وإشراك المجتمع والقطاع الخاص والقطاع غير الربحي في هذا المشروع الطموح.
والتحول إلى نموذج تمكين المدارس يعني تحولا جذريا في النظام التعليمي، بل يعني الانتقال من نظام تعليمي إلى نظام تعليمي آخر وإن كانت بينهما بعض المتشابهات، لكن نقاط الاختلاف كثيرة وجوهرية.
أحاول في هذا التقرير للمجلة التربوية الإلكترونية قراءة النموذج الجديد، واستقراء أبرز ملامحه، والتوقعات المأمولة منه، والفوارق بينه وبين النموذج التعليمي القديم، والفرص والتحديات التي ترافق تطبيق هذا النموذج، وسأضع في نهاية المقال نصائحا سبع أسوقها من واقع خبرتي للزملاء قادة المدارس.
ماذا نعني بتمكين المدرسة؟
تمكين المدرسة يعني أن تتولى المدرسة قيادة التغيير في أدائها وفي نواتج طلابها، وبالتالي المسؤولية الكاملة عن إدارة عملياتها بنفسها، سواء في بناء أهدافها وخططها، وقيادة عملية التعلم، وفي تقييم التدريس وتقويمه، وتشخيص التعلم وتقويمه كذلك، وفي بناء وإدارة برامج التطوير المهني لمعلميها، وتهيئة البيئة المدرسية والمناخ التعليمي الذي يعزز تعلم الطلاب، وابتكار البرامج التي تنظم العلاقة وبناء الشراكات مع المجتمع المدرسي وأولياء الأمور والقطاع الخاص، وفي قيادة وابتكار برامج التحسين والتطوير لكل هذه المجالات.
عندما تمسك المدرسة بمقود التغيير بنفسها فهذا يعني منحها مزيدا من الصلاحيات والمسؤوليات. ويترتب على ذلك أيضا نقل غرفة العمليات في قيادة التغيير بالمدارس من ردهات الإشراف التربوي إلى ساحة المدرسة الفسيحة.
لماذا تمكين المدرسة؟
-تجويد مخرجات التعليم: تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 في التنمية البشرية للمواطن السعودي يتطلب تجويد العمل المدرسي تجويدا يقود إلى اكساب الجيل الجديد مهارات المستقبل وإعداده بما تتطلبه ثورة التقنية والمعلومات الجديدة.
-محاكاة النماذج التعليمية المتقدمة: المتأمل والمتتبع لنموذج “تمكين المدرسة” الجديد يجد أنه يحاكي النظم التعليمية في الدول التي تحقق مراكز متقدمة في تصنيف التعليم، بل يتطابق معها إلى حد كبير. وهذه نقطة تحسب للقائمين على تطوير التعليم بأن نبدأ من حيث انتهى الآخرون ونستفيد من تجارب الآخرين الناجحة. وقد عايشت أحد هذه النماذج في برنامج خبرات في المدارس النيوزيلندية، ويسعدني أن كثيرا من الأفكار والتجارب التي رأينا تميزها هناك قد بدأ تطبيقها على أرض الواقع لدينا.
-الاستغلال الأمثل للموارد: تبذل المملكة ميزانيات ضخمة للتعليم، ويزخر الميدان التربوي بالكوادر البشرية المؤهلة والمتميزة، التي وجهت ربما في النموذج التعليمي السابق بعيدا عن التأثير المباشر على الطالب ومخرجات تعلمه، وهذا يفرض ابتكار نموذج للنظام التعليمي قادر على أن يوجه هذه الموارد المادية والبشرية الضخمة باتجاه المستهدف الرئيسي لقطاع التعليم وهو الطالب. وهذا ما جاء به النموذج الجديد عندما أسند للقطاع الخاص كافة الأمور التشغيلية، وبالتالي تخفيف جزء كبير من الأعباء المالية عن المدرسة، وتسخير المورد المادي والوقتي باتجاه المجالات التي تخدم الطالب وتحسن نواتج التعلم.
نجد ذلك أيضا في التنظيم الإشرافي الجديد الذي سيعيد عدداً من الكوادر الإشرافية المتمرسة إلى ساحة المدرسة، وقريبا من الفصل الدراسي وفي مهام تتعلق مباشرة بالتعلم وهذا سيختصر الجهد والزمن في رفع كفاءة العمل المدرسي وتحسين مخرجات الطلاب.
-التركيز على العوامل الأكثر تأثيرا في نتائج الطلاب: ربما تكون وتيرة العمل التعليمي في السابق مشتتة في كثير من الأهداف والمجالات التي تأخذ المدرسة بعيدا عن هدفها الرئيسي وهو التعليم والتعلم. ولذا جاء نموذج تمكين المدارس بالتركيز على أربع مجالات محددة واستهدفها بالتقييم والتقويم والتطوير والتحسين، وهذه المجالات الأربعة هي المجالات الأكثر تأثيرا في نواتج تعلم الطلاب كما تشير أغلب الدراسات.
-التخلص من البيروقراطية: أعطى لقاء وزير التعليم الأخير بقادة المدارس مؤشرا على توجه الوزارة في تقليص المسافة بين الوزارة والمدرسة، مما يعزز الرسالة التي تريد الوزارة إيصالها إلى المدرسة، وتجويد التغذية الراجعة التي تبعثها المدرسة إلى الوزارة، يظهر ذلك جليا في الهيكلة الجديدة لإدارات التعليم، وسيساعد على ذلك التطور الهائل في المنصات التعليمية وقنوات الاتصال الافتراضية.
-زيادة الثقة والمسؤولية: إعطاء المدرسة المزيد من الصلاحيات وتكليفها ببعض المهام التي كانت تضطلع بها الإدارات والإشراف التربوي يمنح المدرسة والمنتمين إليها المزيد من الثقة والمسؤولية.
-ضمان الجودة: تجويد معايير التقييم وتعدد عملياته وتنوعها وتجويدها سيساهم في تحسين جودة البيانات التي تفرزها هذه العمليات وستعتمد عليها عمليات التحسين، وبالتالي تجويد الأداء المدرسي في نهاية الأمر.
أبرز النماذج المحاكاة:
يحاكي النموذج الجديد بعض النظم التعليمية في الدول التي حققت مراكز متقدمة في التصنيفات الدولية للتعليم ولطلاب المدارس. أحد هذه النماذج هو التعليم النيوزيلندي الذي يضع ” التعليم المتمركز حول الطالب” شعارا له، ويرتكز هذا النموذج على خمس مجالات يرى أنها الأكثر تأثيرا في مخرجات التعلم من بين بقية المجالات المدرسية الأخرى. وقد وجدت تقاربا كبيرا بين النموذج المدرسي الجديد لدينا والنموذج النيوزيلندي في نقاط التركيز في العمل المدرسي وكذلك في الهيكلة المتوقعة للنظام التعليمي الجديد.
يجب التفريق في هذا الجانب بين الإشراف التربوي عملية أساسية من عمليات التعليم وبين الإشراف التربوي جهازا هيكليا ضمن هيكلة النظام التعليمي. ما سيحدث هو انتقال عمليات الإشراف التربوي والممارسات التي اعتاد المشرفون التربويون القيام بها في مكاتب التعليم لتكون من المهام الملقاة على عاتق المدرسة، ولتصبح من الممارسات التي سيتضمنها جدول أعمال فرق القيادة والتقويم والتحسين في كل مدرسة. وهذا يعني أن الأدوار باقية لكن الساحة اختلفت فقط.
ماهي الفوارق بين النموذج الجديد والنموذج السابق؟
أ. هيكلة تنظيمية مختلفة للنظام التعليمي.
ب. المدرسة هي وحدة التطوير الرئيسة: وهي منطلق التغيير وتقع على عاتقها قيادة عمليات التطوير والتحسين في الأداء التعليمي.
ج. حوكمة الأداء المدرسي.
د. المقيم الخارجي: ويتمثل ذلك في جهة مستقلة (هيئة تقويم التعليم والتدريب) تقيّم الأداء المدرسي وتعطي تصنيفا للمدارس بناء على أدائها في مجالات محددة ووفق معايير متفق عليها ومعلنة.
هـ. نقاط التركيز: يصب النموذج الجديد تركيزه، ويوجه كل عملياته، ويبني كل قراراته، على نواتج تعلم الطلاب، وعلى العوامل الأكثر تأثيرا في هذه النواتج.
و. أدوار مختلفة: يضيف هذا النموذج أدواراً جديدة لمدير المدرسة ولطاقم المعلمين فيها تقتضي القيام بمهمات التقييم والتقويم، ومهمات التطوير والتحسين. هذه الأدوار كان يضطلع بها المشرف التربوي الذي أصبح دوره الجديد مستشارا تعليميا ولعدد محدد من المدارس.
ز. صلاحيات أكبر لقادة المدارس.
ح. تغيير نمط العمل من الفردية إلى العمل الجماعي (الفريقي): وهو ما يضمن أفكارا أكثر تنوعا وإبداعية، وسيقلل من الأخطاء الإدارية ويعطي فعالية أكبر للعمل المدرسي.
ماهي القيم التي يريد النموذج الجديد تأصيلها في الميدان التربوي؟
أولاً: الشفافية: سيعطى لكل مدرسة تصنيفا بناء على التقييم الذاتي والخارجي، وبعد ذلك سيكون التصنيف معلنا وسيطلع عليه كل من لهم علاقة بالعمل المدرسي سواء الطلاب أو المعلمين وأولياء الأمور.
ثانياً: الجودة: سواء في التخطيط للعمل المدرسي أو في معايير التقييم أو عمليات التقويم ومن ثم في خطط التحسين، وبالتالي جودة الأداء المدرسي في النهاية.
ثالثاً: العمل الجماعي: تنظر النظم التعليمية المتقدمة للفصل الدراسي بأنه النواة الصغيرة لتشكيل مجتمع المستقبل، ولذا تحاول أن تغرس روح العمل الجماعي في الطلاب منذ نشأتهم. يستهدفون ذلك في أساليب التدريس وفي بناء المناهج وفي قيادة العمل المدرسي عموما مما يؤصل لهذه القيمة في مجتمع المستقبل. وجدت ذلك واضحا في نموذج “تمكين المدرسة” وهي خطوة تكشف عمق هذا النموذج، ورُقيّ الهدف الذي يسعى إليه.
رابعاً: التنوع والابتكار: تمكين المدارس من بناء أهدافها ووضع خططها بنفسها وقيادة عمليات التحسين والتطوير سيبرز نماذج مبتكرة ومتنوعة للعمل المدرسي قادرة على مواجهة كافية التحديات، وسيعطي الفرصة للمزيد من العقول النيرة في المدارس للتفكير العميق في أساليب تحسين وتجويد أداء المدرسة.
خامساً: التميز: ربما يساعد الاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية الذي أتى به هذا النموذج، والتركيز على مستهدفات محددة في العمل المدرسي، كل مدرسة على التميز سواء في الأداء المدرسي عموما أو في نواتج تعلم الطلاب ومستويات الأداء لديهم، أو في النماذج التدريسية التي تتم في قاعاتها، أو حتى في تهيئة بيئة داعمة ومحفزة للتعلم.
أبرز الفرص:
1- الخبرة الداخلية للمدرسة: وهي الكنز الذي غالبا ما كان معطلا ولا يستغل، سواء في تحسين نواتج التعلم للطلاب أو في التطوير المهني للمعلمين الذي كان يرتكز في غالبه على برامج الإشراف التربوي التدريبية. إذ أن تحريك الخبرة الداخلية للمدرسة من شأنه تجويد الممارسات التدريسية للمعلمين ودعم مجتمعات التعلم المهنية للمدرسة بالإضافة إلى أنه سيزيد من جاذبية المدرسة للمعلمين وانتماءهم لها عندما يجدون تثمينا وتقديرا لخبراتهم وقدراتهم.
2- الكوادر الإشرافية المتمرسة: الكوادر الإشرافية التي أمضت سنوات طويلة في الإشراف التربوي وتمرست على عمليات التقويم والتحسين والتطوير للعمل المدرسي ستصبح في موقع أقرب للقاعة الدراسية وأكثر تركيزا مما يعطي فاعلية أكبر وجودة أعلى للأداء المدرسي.
3- بيانات تقييم محكمة: عمليات التقييم والتقويم ستكون وفق عمل جماعي ممنهج ووفق معايير محكمة تخضع لمراقبة هيئة تقويم التعليم والتدريب، إضافة إلى التقويم الخارجي الذي ستنفذه الهيئة وسيعطي تصنيف للمدارس بناء على أدائها في المجالات الأربع المحددة سلفا. هذه المنهجية في عمليات التقييم ستساهم في تحسين جودة البيانات التي تبني عليها المدرسة عمليات التطوير والتحسين لنواتج التعلم، وتعتمد عليها أيضا في بناء مجتمعات التعلم المهنية التي ستكون المنهل الأكبر لتطوير المعلم في قادم الأيام.
4- مجالات تطوير محددة: تتفق أغلب الدراسات في تطوير التعليم على مجموعة من العوامل التي يرى أنها الأكثر تأثيرا في مخرجات الطلاب. إحدى هذه الدراسات هي نظرية القيادة المتمركزة حول الطالب لفيفيان روبنسون (2011)، التي حددت القيادة المدرسية، والاستغلال الأمثل للموارد، وجودة التعليم والتعلم، والتنمية المهنية الجيدة للمعلم بالإضافة إلى بيئة تعلم آمنة ومنظمة كأكثر العوامل المدرسية تأثيرا في نتائج الطلاب. وإذا تأملنا في الأنظمة التعليمية المتقدمة حول العالم نجد أنها لا تبتعد كثيرا عن نموذج فيفيان روبنسون فيما يخص نقاط التركيز في العمل المدرسي. ونموذج تمكين المدارس في حلته الجيد قريب جدا من هذه النماذج العالمية، فهو يركز على أربع مجالات محددة ويضع لها معايير تقييم عالية مستهدفا تحسين الأداء المدرسي بتحسينها لأنها كما أسلفت أكثر العوامل المدرسية تأثيرا في نواتج الطلاب.
5- التخلص من الأعباء التشغيلية: لفت نظري عبارة أوردتها فيفيان روبنسون (2011) في كتابها “القيادة المتمركزة حول الطالب” نقلا عن أحد مديري المدارس وهي ” الشيء الأهم يجب أن يبقى هو الشيء الأهم”. وهذا في اعتقادي ما بني عليه نموذج تمكين المدرسة. فالنموذج أزاح عن كاهل إدارة المدرسة كل الأمور التشغيلية وأوكلها إلى شركة متخصصة، وبالتالي ستكون إدارة المدرسة متفرغة تماما للعمل على عمليات التعليم والتعلم وهي “الشيء الأهم” الذي عنته روبنسون في كتابها.
6- التطور التقني الهائل في وسائل ومستلزمات التعليم: وهذا من أهم الممكنات التي ستساعد على التحول للنموذج الجديد، سواء تطبيقات ضبط الحضور والغياب أو تطبيقات اللقاءات الافتراضية أو المنصات التعليمية. هذه الوسائل تختصر الوقت والجهد وتختصر خطوط التواصل المباشرة بين المدرسة والوزارة.
أبرز التحديات:
-مقاومة التغيير: سيظهر ذلك في سلوك بعض المنتمين للوسط التعليمي، وهذه طبيعة التغيير، وهذا يستلزم من قيادات العمل التربوي نشر ثقافة العمل الجديد وتوعية الكوادر المدرسية والإشرافية بأهميته ومتطلباته.
-ضعف الاستجابة: وهذا قد يحصل بفعل ضعف الثقافة بالنموذج الجديد، وعلاجها المزيد من اللقاءات والورش التي تشرح وتوضح أهداف النموذج وطبيعة العمل به وآلياته.