أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
ترتبط عملية بناء المجتمعات بالتعليم ارتباطا كبيرا، فيقال إن أردت أن تبني مجتمع القوة فعليك أن تحدد نوع التعليم الذي تريد، لذلك لم يكن التعليم في حياة الشعوب المتقدمة مجرد ممارسة يومية ، تقوم على حشو ذهن الطالب وسرد المعلومات والقصص، بقدر ما هو إنتاج جديد للحياة، فالتعليم هو من يرسم التوجه وخطوات العمل القادمة، هو من يحدد لنا ما نريد ، وماذا ننتج، وكيف نصنع ونبتكر، وكيف نعيد إنتاج الواقع، هو بحق بوابة المستقبل، بل هو بوابة الحياة في عالم متغير وظروف متغايرة وأحداث متعاقبة، يبني اتجاهات الناس وأفكارهم ومهاراتهم وقدراتهم وقيمهم ومبادئهم وأخلاقهم، ماذا لديهم، وماذا يمتلكون ، وهل يستفيدون مما يمتلكونه من مهارات، ويشخص التحديات النفسية والفكرية والقناعات والأيديولوجيات التي تقف خلف بطء التنافس أو سرعة التقدم ، وبالتالي تظل هذه التفاصيل حاضرة في أولويات التعليم وفقه الممارسة، لأنه هو من ينتج هذه التفاعلات، ومن يبني في المجتمعات خطوط التفاعل وخيوط التواصل وأجندة العمل، لتتحرك وتعيد هيكلة الواقع، فيؤسس في المواطن حس المسؤولية والإرادة ، والتغيير والتصحيح، والتقييم والمراجعة، والتأمل والحدس، فهي تنمو في ظلال التعليم وتتسع وتكبر ويقوى حضورها عندما يلهمها التعليم القوة ويصنع لها حضورا في سياساته وخططه وبرامجه، فيكون بذلك المواطن قد امتلك الحصانة الذاتية وتشبع بالمهارات والاستراتيجيات والقيم التي يبدأ في ظلها يرسم طريق الخيرية، ويتجه بما يمتلكه من قوة فكرية ونفسية وإرادة ليسهم بها في بناء مجتمعه، ويوظفها في رقي وطنه.
وعليه كان على منظومات التعليم ومؤسساته أن تمتلك حس الاختيار الدقيق للمسار التعليمي والمناهج والأطر والإستراتيجيات وآليات العمل، بحيث يبني التعليم عمله على وقائع، ويستنتج دلالاته من خلال أحداث وتجارب ، منطلقا من خصوصيته في إدارة متطلبات الحالة الوطنية ، فمع القناعة بعالمية التعليم واحتياجه للآخر، لكنه في المقابل يبني أجندته وخططه وخياراته وبرامجه ومناهجه على مسوغات وطنية ومبررات بالحاجة إليها، وإستراتيجيات عمل تعكس ما يفكر فيه المواطن، حتى يكون التعليم وفق الاحتياج، ملبيا للطموحات، محققا للرغبات، متناغما مع الأولويات، متجاوبا مع الإرهاصات، حكيما في معالجة الأزمات، حاضرا في إدارة الحالات، قادرا على أن يثبت بصمة حضور له في حياة المجتمع، يمتلك من الأطر والموجهات ما يحفظ للمجتمع كيانه ويبني أنظمته ويحقق أمنه ويعلي من شأن قيمه، رابطة وطنية تجمع المواطنين على وحدة الهدف والمصير وأولوية التطوير، في استشعار لطبيعة التحول، والدور المأمول من المواطن، والمسؤولية الجماعية المشتركة، مع المحافظة على درجات التواصل والحوار مع أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية والقطاع الخاص حاضرة.
على إن اسقاط ذلك على توجهات سلطنة عمان بتعزيز منظومتها الاقتصادية وتطوير مواردها والاستثمار في اقتصاد السياسية والأمن والسياحة والثقافة والعادات والتقاليد ، يؤكد الحاجة إلى أن يستدرك التعليم هذه الأولويات ويضعها في قائمة الاهتمامات، بحيث تظهر في تنويع مساراته التقنية والمهنية والفنية، وتعزيز مسار المواءمة مع متطلبات سوق العمل، أو كذلك انهاض روح العمل والإنتاجية وبناء المشروع وريادة الاعمال والابتكار في سلوك المواطن، إذ أن توليد مجتمع الاقتصاد إنما يستند إلى ممكنات ومسوغات يبرزها التعليم في الواقع، ولذلك كان من المؤمل أن يساير هذه التحولات العملاقة التي اتجهت إليها السلطنة في تعزيز بنيتها الاقتصادية والمشاريع الضخمة التي افتتحتها في المدن الاقتصادية كالدقم وصلالة وصحار وغيرها ، أن يسايرها جهدا تعليميا واضحا تقوم مدخلاته على تثبيت قواعد الاقتصاد ومبادئه واجندته في الممارسة التعليمية والمناهج الدراسية وأساليب التعلم والتعليم والتجريب، وإعادة مفهوم المدارس المنتجة ، ورفع سقف الاهتمام بالمهارات الناعمة ومهارات الحياة والتخصصات المهنية وغيرها، إذ أن هذه التفاصيل المهمة سوف تؤسس لمسار اقتصادي قادم، وتدعم جهود الدولة في تعزيز التنويع الاقتصادي، وتقلل من الفجوة الحاصلة في القناعات والمفاهيم بين التعليم والوظيفية والعمل ، أو على الأقل تقلل من الهاجس السلبي الذي بات يبنيه الطالب على مسوغات تسريح العمانيين من القطاع الخاص وأفواج المنتظرين من الباحثين عن عمل من مخرجات التعليم الجامعي والدبلوم المتوسط والعام ، واشكالية الثقة بين أصحاب المال والشركات في المنتج التعليمي ، والتحجج بعدم امتلاك مخرجات التعليم الوطنية مهارات سوق العمل، وما تعكسه الزيادة المضطردة للأيدي العاملة الوافدة من إرهاصات قادمة .
من هنا كان على التعليم أن يتجه إلى تبني أشرعة التغيير الذاتية، وإنتاج التجارب وتقديم الحلول، والاستثمار في المواهب، وبناء القدرات وصناعة القدوات والنماذج وإنتاج جودة الحياة، وخلق الروح الإيجابية في المجتمع ، في مواجهة تداخل الأفكار وازدواجية العمل والتباينات، وضبابية الصورة لدى المواطن حول الكثير من الاحداث والقضايا المجتمعية وانعكاسات ذلك على الواقع الاجتماعي والمشكلات الاسرية والجرائم والتحديات الاقتصادية والظروف المعيشية، وحالة الاتكالية والخوف والقلق والمشاعر السلبية والضجر والتأفف والإحباط، والزهد في الكفاءة الوطنية والمنتج المحلي، إن قدرة التعليم على الخروج من هذه التراكمات يؤسس اليوم لإعادة هيكلته وتمكينه وتعزيز صلاحياته وإبعاد الجراثيم السلبية عنه وتنقيته من الشوائب والممارسات الضارة، وافراغ الملفات الأخرى التي لا علاقة لها بالتعليم والتي تستهلك موارده كونها ممارسات تفتقر إلى التوازن والمنهجية والاختيار المحكم والذائقة الجمالية ، لذلك كان عليه أن يحسن من ادواته، ويطور من مناهجه، وأن يعيد صياغة ذاته ، وإنتاج نفسه، ويستشعر خصائص الطالب والمواطن المستفيد من الخدمة التعليمية، والمهارات التي يحتاجها، ثم الممكنات التي تتوفر لدى المواطن والقدرات والاستعدادات التي يمتلكها، بحيث تستنطق البرامج والخطط والتوجهات واقع المواطن، وتستشعر الاحتياج الفعلي له ، وعندها سوف تكون النتائج مبهرة.
أخيرا نعتقد بأن ما تحمله رؤية عمان 2040 من توجهات نوعية يجب أن يستدركها التعليم في ممارساته بحيث يجسد الرؤية في تفاصيل الحياة اليومية للطالب، وأن يقرأ تفاصيلها في سلوكه وثقافة المدرسة وثقافة الصف الدراسي وفي قاعات التدريس والمختبرات المدرسية وبيئة التعليم والتعلم، ويرصدها في ظروف الطلبة الاقتصادية والمعيشية والنفسية والاسرية، ليصنع لها في المقابل حلول مقنعة وبدائل واقعية ويقدم نماذج تطبيقية لمعالجتها من واقع حياة الطالب، فإن كفاءة التعليم في سرد أبجديات الرؤية وقيمها في تفاصيل العلاقة مع الطالب، والإثباتات والبصمات التي يجب أن يتركها في سجل حياة الطالب سوف تكون محطات تحول تنعكس على مستقبله وإدارته لواقعه وتكيفه مع مستجداته وامتلاكه أدوات التغيير في حياته.