مسقط – الرُّؤية: يتواصلُ الإقبالُ على متحف المدرسة السعيدية للتعليم؛ باعتباره مُؤسَّسة تربوية وتعليمية وثقافية، جاء تأسيسه متناغماً ومناسباً للمكانة المرموقة التي كانت -ولا تزال- تحتلها المدرسة السعيدية نفسها؛
كَوْن تأسيسها كان الحدث الأهم في الحقبة الماضية، التي خرَّجت أجيالاً ورجالاً، أسهموا في بناء عُمان الحاضر، كما أنَّه يُوثِّق المراحلَ التاريخيَّة المختلفة التي مرَّت بها العملية التعليمية في السلطنة، والتطورات التي صاحبتها خلال العهد الزاهر لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- الذي أوْلَى التعليمَ جلَّ اهتمامه منذ البدايات الأولى لعصر النهضة المباركة.
وحَوْل بداياته منذ الإنشاء والافتتاح وحتى الآن، قالت ردينة بنت عامر الحجرية نائبة مدير المتحف: المبنى هو المقرُّ القديم للمدرسة السعيدية بولاية مسقط، التي تعدُّ أول مدرسة نظامية في السلطنة، أُنشئت عام 1940م بأوامر مباشرة من السلطان سعيد بن تيمور، وخرَّجت أجيالا من رجالات عُمان الذين هم الآن في العديد من المواقع المهمة في هذا البلد، واستمرت في تخريج دفعاتها حتى العام 2000م حين وجَّه جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- بتحويلها إلى متحف تعليمي شامل يُوثِّق مسيرة التعليم في السلطنة منذ فجر الإسلام حتى الوقت الحالي.
وتضيف الحجرية: “افتُتح متحف المدرسة السعيدية للتعليم بمسقط يوم 8 يناير عام 2014، برعاية صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث والثقافة، وبحضور عدد من أصحاب السمو والمعالي والسعادة، وعدد من المعلمين القدامى والطلاب الدارسين، وبعد ذلك تحول هذا المتحف التعليمي إلى الوجهة الأولى للعديد من الزوار، والحاضن الأول للقاءات والتظاهرات الثقافية والفنية بالسلطنة”.
وتتضمَّن القاعة الأولى لمتحف المدرسة السعيدية للتعليم 7 شاشات مرئية تتطرق إلى “حتمية التعليم”: بمعنى أنَّ التعليم ليس مسعى بشريا فقط، بل يُعنَي جميع الكائنات؛ فالحيوان يتعلم صغاره أنواع حركات والديها حين اللعب؛ فيساعدها هذا التعلُّم على الاندماج في المجموعة، وضمان بقائها، إلى جانب تفاعلها مع المحيط الذي تكبر وتعيش فيه، وكذلك هي الحال عند الإنسان.
كذلك يعرض على هذه الشاشات ظهور الكتابة والمدارس الأولى في التاريخ؛ حيث يعودُ ذلك إلى الألف الرابعة ق.م في سومر في العراق القديم، وقد كانت هذه المدارس تسمى “بيت الألواح”؛ لأنَّ التلاميذ كانوا يكتبون على ألواح من طين، وكان المعلم يدعى “أوميا” أي “أبو المدرسة”، أما التلميذ فيصبح “دوب سار” أي الكاتب على اللوح بعد إنهاء دراسته، ويصبح ذا مركز اجتماعي رفيع. وظهرت هذه الكتابة في سومر برسم أشكال ترمز إلى الأشياءعدة، ومن ثم طورها السومريون فيما بعد.
كما ظهرتْ الكتابة في شبه الجزيرة العربية، وتعود أقدم الكتابات المكتشفة فيها إلى 2700 ق.م، والتي عثر عليها لأول مرة في مدينة ثمود باليمن، وسميت بـ”الكتابة الثمودية”.
وعُثِر في جنوب عُمان على ما يزيد على 20 منقوشاً بخط المسند، وقد عُثر على أقدم كتابة محلية فيها في أختام في موقع رأس الجنز، وأُرِّخت لتعود إلى 2200 ق.م.
بدايات التعليم في عُمان
وتعرض القاعة الثانية حكاية لـ”ظهور التعليم والمدارس في عُمان”؛ حيث يعدُّ مسجد المضمار الذي يعود بناؤه إلى عام 6 للهجرة (627م) أول مدرسة موثقة في التاريخ العُماني، كما يُعد الصحابي مازن بن غضوبة أول معلم فيها، ومن أشهر مدارس عُمان في تلك الفترة -وكانت تعرف بـ”صدر الإسلام”ـ مدرسة مسجد الشواذنة في نزوى، ومدرسة الجلندى بن مسعود، ومدرسة آل الرحيل في صحار، ومدرسة الضرح في بهلا، ومدرستا البشيربن المنذر النزواني، ومحمد بن رواح في نزوى، إضافة إلى مدرسة موسى بن أبي جابر الإزكوي بإزكي.
وتستعرضُ القاعة الثالثة مسيرة “التعليم في عُمان من القرن السابع عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي”؛ حيث كان الأطفال في هذه الفترة يتلقون تعليمهم الأول في الكتاتيب، وبعد ختم القرآن الكريم يلتحق الطالب بحلقات التعليم في المساجد، التي يعلم فيها علماء في مختلف العلوم الدينية والأدبية والتاريخية، كما في نزوى والرستاق، أو في بهلا، والمضيبي، والحمراء.
ومن أهم المدارس في القرن 17: مدرسة حصن جبرين التي أسسها الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي، والتي كانت بمثابة جامعة علمية تدرس علوم القرآن، والأدب، والتاريخ، والفقة، والشريعة، والحساب، والفلك والطب، والكيمياء. وتذكر المراجع أن الإمام بلعرب أسس هذه المدرسة بناء على نصيحة وفد من علماء جزيرة جربة التونسية، بعد زيارتهم له.
أمَّا عن المدارس في عهد الإمام أحمد بن سعيد، فكان أبرزها: مدرسة حبيب بن سالم بن محمد الأمبوسعيدي التي قامت 1944م في حلة العقر بنزوى. ومدرسة مسجد البياضة في الرستاق.
وتستعرض القاعة الرابعة “مدارس عُمان من أواخر القرن 19 إلى عام 1970 ودور العُمانيين في نشر التعليم في شرق إفريقيا”؛ فحتى العام 1970م، لم يكن في عُمان سوى ثلاث مدارس حكومية؛ هي: المدرسة السعيدية في مسقط والتي أنشئت عام 1940م، والمدرسة السعيدية بصلالة والتي أنشئت عام 1936م، وكانت تتكون من ثلاث قاعات لتدريس القرآن الكريم، ومبادئ التجويد، والدين، واللغة العربية والحساب، إضافة إلى المدرسة السعيدية بمطرح، والتي أنشئت عام 1959م.
بينما تعرض القاعة الخامسة مسيرة “المدرسة السعيدية بمسقط”: منذ افتتاح مبناها، واستمرار التعليم فيها حتى العام 1973م، وتحتوي هذه القاعة أيضا على نفس شكل المقاعد الدراسية التي كانت تستخدم في المدرسة منذ افتتاحها، إضافة إلى الكثير من المعلومات عن بدايات التعليم فيها والمديرين الذين تعاقبوا على إدارتها، والمعلمين الذين درسوا فيها منذ تأسيسها وحتى العام 1973.
وتأتي القاعة السادسة لتعرض الكثير من الوثائق والمخطوطات والصور والمراسلات الخاصة بالمدرسة السعيدية بمسقط، ونماذج من الكتب التي كانت تدرَّس فيها: ككتاب “تلقين الصبيان ما يلزم الإنسان” للمحقق والعلامة الشيخ نور الدين السالمي، و”تفسير القرآن الكريم” لعليوة مصطفى عليوة وإسماعيل الدسوقي سرور، و”الحساب البسيط”، وأيضا “البسيط في قواعد اللغة العربية”.
بينما تعرض القاعة السابعة “مرحلة النشر السريع للتعليم (1970- 1975م)”؛ فحين تولى صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد في 23/7/1970م لم يكن في عُمان سوى ثلاث مدارس ابتدائية، وقد بلغ إجمالي عدد طلابها 909 طلاب من الذكور فقط، ولكن بفضل توجيهات جلالته واهتمامه بالتعليم وبالعلم وطلبه ولو تحت ظل الشجر، تسارعت وتيرة افتتاح المدارس في عُمان، كما كان لتعليم الفتاة نصيب من هذا الاهتمام؛ حيث افتتحت مدرسة الزهراء للبنات في العام 1970م بإدارة المعلمة الفلسطينية انشراح عبدالسلام.
تطور التعليم في السلطنة
وتأتي القاعة الثامنة “الإحصاءات التعليمية 1971-2013 والمدارس الحديثة”، لتعرض التسارع الكبير في تطور النظام التعليمي في السلطنة، من خلال إحصائيات ومقارنات بين عدد المدارس والمعلمين والطلاب الدارسين في الأعوام الدراسية منذ 1970م إلى العام 2013م، كما تقدم هذه القاعة أيضا عروضا مرئية لنماذج من المدارس الحديثة: كمدرسة الإمام جابر بن زيد للبنين بالوطية.
أما القاعة التاسعة، فتعرض “تحسين نوعية الخدمات التعليمية”؛ وذلك من خلال عروض مرئية ومعلومات عن مدارس التعليم الأساسي والتعليم ما بعد الأساسي، ومدارس التربية الخاصة؛ مثل: مدرسة الأمل للصم، ومدرسة التربية الفكرية، وأيضا معهد عمر بن الخطاب للمكفوفين.
وكان للزائرين لهذا المتحف التعليمي حديث ذو شجون حرك في وجدانهم ذكريات جميلة، فحدثنا المقدم الركن مدير متحف قوات السلطان المسلحة فالح بن سيف المعمري، عن إعجابه بأحداث تطور التعليم، وحتى يومنا هذا بقوله: متحف جميل ورائع، فهو يحكي قصة التعليم وطرق التدريس في السلطنة من بداية الكتاتيب وحتى يومنا هذا، فشكرا للقائمين على هذا المتحف.
وقال عبدالله شامير الرئيسي خبير بوزارة التعليم العالي: “أسعدني العودة إلى مدرستي الأولى، واطلاعي على بعض محتويات المتحف واستعدت ذكريات رائعة، كما أني آمل أن تضاف الكثير من الوثائق الخاصة بالمدرسة؛ كي تكون كما كانت منارة للأجيال في الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل”.
وقال عبدالوهاب عبد الحميد -زائر من دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة: “سعدت بزيارة متحف المدرسة السعيدية للاطلاع على عبق التاريخ العربي الأصيل مع النهضة الحديثة في ظل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله وأدام عليه الصحة والعافية- وحفظ الله شعب عُمان الكرام”.
وقال مصطفى السيد إبراهيم العلوي معلم سابق بالمدرسة السعيدية من مملكة البحرين الشقيق: سررتُ كثيرا وأنا أزور المدرسة التي عملت بها؛ وذلك بعد 40 عاما مضت، كما سرني أن أواكب التطور الكبير الذي حدث منذ ذلك الوقت في جميع المجالات بشكل عام والتعليم بشكل خاص، فتنمياتنا لبلدنا الحبيب سلطنة عُمان بالتقدم والازهار.
وقال صالح حسين العبدالله مدير مدرسة بدولة الكويت الشقيقة: تشرفت بزيارة هذا المتحف الذي كل زاوية فيه تخالج قلبي وتحكي حقبة تعليمية، كما دار في فكري الجهود الجبارة التي بذلها المعلمون العُمانيون في مجال التعليم فكانوا البذرة الأولى في نشر التعليم النظامي.
اترك تعليقاً