الأولى في التعليم عالمياً.. لكن شعبها غير راض

الأيام: تحظى كوريا الجنوبية بسمعة وشهرة عاليتين في مجال التعليم، ولعل ما يؤكد هذا ويرسخه هو نتيجة “البرنامج العالمي لتقييم الطلبة” لعام 2014 التي نشرت مؤخراً. إذ احتلت كوريا الجنوبية مجدداً ــ كما فعلت في عامي 2006 و2009 المركز الأول بين الدول الديمقراطية الصناعية الثلاث والأربعين ضمن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في الرياضيات، واحتلت المرتبتين الأولى والثانية في القراءة، والمراتب الثانية والثالثة والرابعة في العلوم، متفوقة على دول الجوار الإقليمي المتقدمة مثل الصين وسنغافورة وتايوان، وهونغ كونغ، بل متجاوزة حتى فنلندا، التي جاءت خامسة، رغم سمعتها العالمية في التعليم المتطور.
هذا الإنجاز الكوري الجنوبي جعل الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” يشيد بحكومة سيئول وسياساتها التعليمية. غير أن ما يعجب الأجانب ويجعلهم يكيلون له المديح، هو نفسه الذي يتعرض للنقد من أصحاب الشأن في الداخل. كيف؟
قبل أن نجيب على السؤال لابد من الإشارة إلى أن جذور التعليم في كوريا تعود إلى عام 372 للميلاد، حينما تأسست أول مدرسة نظامية، لكن الهيكل التربوي والتعليمي الحديث المعمول به حالياً عمره نصف قرن تقريباً. وعلى الرغم من هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبياً فإن برامج وخطط التعليم في هذه البلاد أثمرت عن أشياء مثيرة ومدهشة. كما أنه من المهم قبل الإجابة على السؤال أن نذكر بعض خصائص النظام التربوي والتعليمي الكوري ومنها:
• تولي الدولة عناية قصوى للعملية التربوية باعتبارها مفتاح التقدم والنهضة. ودليلنا أن المعهد الكوري للمناهج والتقويم يرتبط مباشرة برئيس الوزراء، وأن وزير التربية هو في الوقت نفسه نائب رئيس الوزراء. ناهيك عن أن وزارة التربية أعيدت تسميتها لتصبح “وزارة التربية والموارد البشرية”، الأمر الذي يعكس اهتماماً واضحاً من لدن صانع القرار بالمعلم وضرورة تأهيله وإعداده إعداداً جيداً.
• الإهتمام بإكساب الطلبة مهارات وقدرات أساسية، وثقافة حديث متطورة تساهم في عملية التنمية، وتخلق الإنسان الواعي المبدع والملتزم بأخلاقيات العمل وقيمتي الوقت والانضباط. وبعبارة أخرى فإن برامج التعليم ما قبل الثانوي في كوريا الجنوبية لا تركز كثيراً على الاختبارات بقدر تركيزها على امتلاك الطلاب للمعلومات والمهارات والمفاهيم الأساسية التي تساعدهم في حياتهم. وفي هذا السياق هناك تركيز على مرحلتي رياض الأطفال وسنوات الدراسة الابتدائية التي يجري فيها بناء أجسام الطلبة، وتنمية لغتهم ومواهبهم وذكائهم، وغرس السلوكيات الحميدة مثل الولاء للوطن، والتعاون، والتكافل الاجتماعي في نفوسهم. وعادة ما تتم مثل هذه العمليات على أيدي معلمين مدربين يحملون أرقى الشهادات الجامعية مع دورات في علم النفس، بمعنى أن مرحلة التعليم الابتدائي مثلاً لا تترك في أيدي المدرسين الأقل تعليماً أو حظاً، بل أن إدارة مدارس هذه المرحلة لا تمنح إلا لمن أمضى ربع قرن على الأقل في السلك التعليمي. ويكفي أن نسمي بعض المواد التي تدرس للطلبة الكوريين كي ندلل على أن النظام التربوي الكوري لا يسعى فقط إلى تخريج الباحثين عن العمل وإنما أيضاً القادرين على حب الحياة وقطف ثمارها عبر الإبداع والخلق والابتكار. فعلى سبيل المثال، وإضافة إلى مواد الرياضيات والعلوم واللغات والاجتماعيات، هناك مواد: التربية الخلقية، التربية الرياضية، التربية المهنية، التربية من أجل حياة ذات معنى، التربية من أجل التمتع بالحياة، والتربية من أجل الأمن والأمان.
• إذا كانت المرحلتان الابتدائية والإعدادية في كوريا الجنوبية مجانيتين والزاميتين، فإن المرحلة الثانوية غير إلزامية وغير مجانية. لكن على الرغم من ذلك فإن نسبة الملتحقين بالمرحلة الثانوية من خريجي الاعدادية لا تقل في العادة عن 90 بالمائة، خصوصاً وأن التعليم الثانوي في كوريا يتمتع بالمرونة ويحتوي على كل التخصصات الملبية لتطلعات الطلاب.
على أن كل ما سبق سرده من مزايا لم يحل دون اعتقاد كوريين جنوبيين كثر ــ سواء من الآباء أو الطلبة أو المدرسين أو الإداريين أو الموظفين الحكوميين ــ أن التعليم في بلادهم يمر بأزمة، وبالتالي فإن ظروفه الراهنة لا تبعث على السرور. وفي هذا السياق يقول البروفسور “إيدن فوستر كارتر” المتخصص في الشأن الكوري وكبير باحثي علم الاجتماع والتاريخ الكوري المعاصر في جامعة ليدز البريطانية أنه أجرى الكثير من المقابلات مع مواطنين كوريين جنوبيين حول أسباب عدم ارتياحهم لنظامهم التعليمي، مضيفاً أن تلك الأسباب لا تزال كما هي بعد مرور نحو أربع سنوات.
والحقيقة أن كوريا الجنوبية لم تحقق الإنجاز المشار إليه في صدر المقال إلا بثمن باهض! فالدولة وزعت مثلاً في عام 2013 نحو 18 بليون دولار على التعليم الخاص من أجل الارتقاء به، وهذا هو الرقم الأعلى في الدول الديمقراطية الصناعية. والآباء أنفقوا أموالاً طائلة على عملية إعداد أبنائهم وبناتهم لاجتياز الامتحانات الصعبة المؤهلة لقبولهم في الجامعات. والطلاب تعرضوا للإرهاق بسبب الدوام المدرسي الطويل الذي يبدأ في الثامنة صباحاً وقد يمتد إلى الحادية عشرة مساء، ثم بسبب الضغوط النفسية عليهم والناجمة عن مطالبة أسرهم ومجتمعاتهم بتحقيق نتائج مبهرة، دعك من قيام مدرسيهم بخرق اللوائح وتعريضهم للعقاب الجسدي المهين. وهناك من كتب قائلاً إن ما تشهده البلاد من قيام الطلبة بالانتحار بين وقت وآخر هو بالتأكيد أحد نتائج تلك الضغوط.
وربما أكثر ما يقلق الكوريون الجنوبيون اليوم هو تسييس العملية التربوية. ففي ظل مناخ الحريات المخيم على البلاد منذ الإطاحة بالديكتاتورية العسكرية في الثمانينات صارت المدارس ــ كما الجامعات ــ ساحات للمبارزة السياسية والنقاش الحاد المفضي إلى الانقسام حول العديد من القضايا التي تبدأ بالمناهج، ورسوم الدراسة، وأسلوب الامتحانات، والعقاب البدني، وتنتهي بالجدل حول المؤسسات السياسية والتربوية، بل أصبحت هذه المدارس أيضا ساحة للتجاذبات بين الحكومة ونقابات المعلمين. ودليلنا أن الأخيرة قامت مؤخراً بالمطالبة باستقالة رئيسة الجمهورية السيدة “بارك غين هي” على خلفية كارثة العبارة التي غرقت في ابريل الماضي وخلفت نحو 300 قتيل ومفقود أكثرهم من الطلاب، بل قامت أيضاً بتأليب الطلاب ضد رئيسة البلاد، الأمر الذي جعل الحكومة تهدد بمعاقبة المعلمين المتورطين في مثل هذه الأشطة النقابية. وكما جرت العادة رفعت دكاكين الحقوق الأجنبية عقيرتها منددة ومتهمة سيئول بمنع المعلمين من حقهم في إبداء الرأي السياسي.
على أن ما سبق ليس المظهر الوحيد لتسييس العملية التربوية في كوريا الجنوبية. فالبلاد تشهد منذ عام 2006 تحديداً توسعة لعملية الانتخاب بالأسلوب الديمقراطي، بحيث تشمل انتخاب مسؤولي التربية والتعليم على مستوى المقاطعات وكبريات المدن كل أربع سنوات بالتزامن مع الانتخابات المحلية. ومما لاشك فيه أن هذا الأمر تسبب في استقطابات وحملات وتصادمات ما بين رموز التيار الليبرالي والتيار المحافظ من التربويين لحصد أفضل النتائج. وإذا ما تأملنا هذه النتائج نجد أن حظوظ التيار المحافظ كانت الأفضل بصفة عامة.

عبداالله المدني

Image
مقالات ذات العلاقة