(3 – 1)
الآن الإلكترونية: كل البشر يحلمون، وقليل من أحلامهم ما يتحقق على الواقع، وكل البشر يفكرون، وقليل منهم مايترجم أفكاره إلى شيء ملموس، فما بالنا إن رأينا تجربة فريدة من نوعها اجتمع بها الحلم والفكر والقرار والعمل بشخص واحد، كون فريقا وتقلب على كل الظروف وحول مشروعه إلى واقع أصبح مضربا للمثل حين نقل بلاده من العالم الثالث إلى الأول في ظرف عقود قليلة، فتاعلوا نتعرف على هذه الشخصية التي أطلق عليه ‘الزعيم الأسطوري’، و ‘الديكتاتور الرشيد’.
نظرا للتاريخ الطويل للسيد ( لي كوان يو ) باني سنغافورة الحديثة، سنقسم هذا التقرير الطويل إلى 3 أجزاء، سننشرها تباعا في Alaan.
مستعمرة بريطانية
سنة 1819 اشترى البريطاني ستافورد رافلس لحساب شركة الهند الشرقية جزيرة سنغافورة وبنى فيها مدينة وأشرف على تنظيمها و كانت الجزيرة تشكو من نقص في السكان ولكنها تمثل موقعا استراتيجيا هاما، عرفت المدينة بعد ذلك هجرة صينية كبيرة، وأصبحت سنغافورة في بضع سنين المركز الاستعماري البريطاني في جنوب شرق آسيا، وما انفكت أهميتها تزداد إلى حدود بداية القرن العشرين حيث قررت بريطانيا إنشاء قاعدة عسكرية، أثناء الحرب العالمية الثانية احتل اليابانيون الجزيرة ما بين 1942-1945، بقيت سنغافورة مستعمرة إنجليزية إلى أن حصلت على استقلالها سنة 1959.
مساحة سنغافورة لا تتجاوز سبعمائة كيلومتر مربع وعدد سكانها يقدر حاليا بخمسة ملايين نسمة، بعد أن تدفق المهاجرون إليها وتعايشت الأديان والأجناس بكل أمان وسلام وعلى رأسهم البوذيون من أصل صيني –42%– والمسلمون 15% ومثلهم المسيحيون وبعض الهندوك والعرب من أصول حضرمية.
سنغافورة خالية من كل الموارد الطبيعية الثمينة، وتستورد الرمال والحجر، وكانت تعتبر دولة متخلفة قبل عقود قليلة جداً من الزمن، ولم تبدأ مسيرتها التنموية بشكل جاد إلا في بداية السبعينيات الميلادية، الآن تعتبر سنغافورة في قائمة أكثر عشر دول في العالم من ناحية الاستقرار الاقتصادي ومن ناحية معدلات النمو، وهي محطة سياحية لملايين السياح في كل عام، كما أنها محطة تجاربة لا يستغني عنها كل من يفكر في شرق آسيا.
قدوم لي كوان يو 1959
قد يظن البعض ان الشعوب (باعتبارها مجموعة أشخاص تعيش على أرض محددة) وحدها تصنع تاريخ الدول، وقد يظن البعض الآخر أن اسم البلد يوضع على خريطة العالم الاقتصادية منذ اللحظة الاولى لولادته. غير ان لهذا الواقع استثناءات، ان لم نقل صورة مقابلة.
فلطالما ولدت دول دون أن تؤثر على الاقتصاد العالمي ‘بشعرة’، ولطالما صنع فرد واحد تاريخ شعب ودولة معا. هذه الصورة المقابلة (أو الوجه الآخر في المرآة، ان صح التعبير) يجسدها لي كوان يو. هذا ‘الثمانيني’، الذي ارتبطت باسمه عبارة ‘مؤسس سنغافورة الحديثة وقائد التنمية الاقتصادية في بلاده’.
ولد لي كوان يو في 16 سبتمبر عام 1923، وأصبح أول رئيس وزراء للجمهورية السنغافورية في عام 1959 بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزب العمل الشعبي الذي أسسه عام ،1954 وبقي في منصبه، الذي تولاه في سن ال35 سنة، حتى عام ،1990 بدأ حياته شيوعيا متزمتا وأنهاها نموذجا تاريخيا في التنمية. لم يتنازل عن فاصلة واحدة من تراث بلاده الاجتماعي. فأثار ازمة سياسية كبرى مع الولايات المتحدة لأن مراهقا اميركيا لطخ نظافة المدينة بالدهان. لكن هذا التمسك بالمبادئ والميراث والعادات لم يتعارض لحظة واحدة مع استخدام الحداثة من اجل الكفاية والضمان الاجتماعي والتقدم والنمو. وكانت النتيجة سنغافورة المعاصرة التي ارتبط اسمها باسم لي كوان يو ‘الديكتاتور الرشيد’.
الباني وطنا للناس
كان من المذهل اقامة مثل سنغافورة الحالية في فقر آسيا قبل اربعة عقود، غير ان لي كوان يو الذي جاء من اوكسفورد الى المستعمرة البريطانية السابقة، كان يحلم بأن يبني وطنا للناس وليس له. لذلك بنى المصانع لا الاذاعات. وامر الناس بالعمل لا بالاصغاء الى الاذاعة. ومنع التجمع الا للصلاة. واغلق السجون ليفتح المدارس. واقام في آسيا نموذجا مناقضا لكتاب ماو تسي تونغ وثوراته الثقافية. ولم يسمح للمذابح لدى الجارة الاندونيسية بالتسرب الى بلاده. وطبق حكم القانون، لكنه لم يحول بلاده الى سجن تطعم فيه الفئران كوجبات دسمة، كما لدى جارته بورما.
ويعتبر لي كوان يو خليطا سحريا من أداب الماضي وآفاق المستقبل. وكان قبل أي شيء حريصا على الكرامة البشرية، فحارب الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ اميركا. وجعل لكل مواطن بيتا بدل ان يكون لكل الف مواطن كوخ. اذ كانت تلك الجزيرة، التي أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819، مجرد قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان، ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين والباقي من ماليزيا والهند مع أقليات آسيوية أخرى. وبعد أن رحل المستعمرون من منطقة جنوب شرق آسيا خلفوا وراءهم فوضى عارمة، فكان على سنغافورة أن تواجه وحدها مخاطر التمدد الشيوعي في جميع أرجاء العالم، خصوصا أنها دولة فقيرة قريبة من الدب الروسي. ولم تجد سنغافورة حلا لهذه المعضلة سوى الانضمام إلى اتحاد الملايو عام 1963 الذي يشكل ما يعرف الآن بماليزيا. الا ان هذا الاندماج لم يصمد أكثر من عامين بسبب إصرار سكان الملايو المسلمين على احتواء سنغافورة من دون مراعاة وجود الغالبية الصينية البوذية فيها. وبعد أقل من عام على الانضمام، حدثت صدامات عرقية بين الصينيين والملاويين كانت كفيلة بخروج سنغافورة نهائيا من اتحاد الملايو في 9 أغسطس 1965 وهو نفسه تاريخ استقلال سنغافورة.
الوحدة والتحدي
يقول لي كوان يو في كتاب سيرته الذاتية عن تلك المرحلة: ‘بعد الانفصال مباشرة توليت منصب رئيس الحكومة، وكل شيء حولي ينذر بالانهيار، فنسبة البطالة تقارب 15% والدولة الجديدة تكاد تخلو من كل شيء: القوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، البنية التحتية متخلفة للغاية، قوات الشرطة لا وجود لها من الناحية العملية، المدارس والجامعات لا تفي بالحاجة، الغليان العنصري والديني يهدد بالانفجار في أي لحظة، التهديد الخارجي لم يتوقف، وكانت ماليزيا تنتظر فشلنا على أحر من الجمر لتستخدم القوة في إعادة سنغافورة إلى حظيرة الملايو’.
وكانت عملية بناء الجيش وقوات الشرطة من أشد الأولويات التي فرضت نفسها على حكومة لي كوان يو. وعزز وجود بعض القوات البريطانية الرمزية في سنغافورة روح التفاؤل بالقدرة على الصمود في تلك الرحلة الحرجة. ولكن ما لبثت بريطانيا أن أعلنت عن نيتها سحب جميع قواتها من المنطقة بعد تراجع دورها في العالم تدريجيا. فخسرت سنغافورة الكثير بسبب هذا القرار لأن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي، كما وجدت نفسها مضطرة إلى التعجيل في تنفيذ برامج التسليح المكلفة.
(3 – 2)
تحدثنا في بداية التقرير عن تاريخ سنغافورة وأسس بناؤها، وعملية بناء الجيش وقوات الشرطة من التي كانت على رأس الأولويات، وصهر مكونات المجتمع العرقية والدينية لوقف الغليان العنصري لمواجهة التهديد الخارجي من ماليزيا وغيرها، واليوم نكمل الحديث على مسيرة السيد ( لي كوان يو ) باني سنغافورة الحديثة.
الأخطاء دروس
بعد الرحيل النهائي للقوات البريطانية من سنغافورة، يشرح لي كوان يو الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المرحلة الجديدة: ‘لم يكن أمامنا إلا أن نبدأ بالسياحة، ما أدى إلى نجاح جزئي لكنه غير كاف للقضاء على البطالة. فكان من الطبيعي ألا تقتصر خططنا على جانب واحد من الاقتصاد، لذا شجعنا على بناء المصانع الصغيرة، خصوصا مصانع تجميع المنتجات الأجنبية على أمل أن نبدأ بتصنيع بعض قطعها محليا، وعرفنا الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو لعدم الحصول على الاستشارات الصحيحة.
وكلفنا ذلك الفشل غاليا لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة وعملنا لئلا نقع في الخطأ مرتين’. ويضيف كوان يو نقطة مهمة: ‘اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم’، وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، تمكنت حكومة لي كوان يو من استعادة جميع القواعد والأراضي والمباني التي كانت تعود الى البريطانيين واستغلالها بصورة مربحة، كما تمكنت من تقليص البطالة إلى حدودها الدنيا مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن بين أهم إنجازات تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية على مساحة 9 ألاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي فترة قصيرة، وثبت سنغافورة وثبتها الكبرى باستغلال موقعها الجغرافي المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا، فأصبحت تستقبل 70 % من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت الى واحدة من أهم المراكز المالية.
أعراق مختلفة
وتتألف البلاد من مجموعة جزر صغيرة متناثرة. أما جزيرة سنغافورة فتنفصل عن ماليزيا بمضيق ‘جوهر’ عند الشمال. ويعتبر سكانها خليطا من أصول مختلفة (75% من أصول صينية و14% ماليزية و9% من الباكستانيين والهنود ثم أندونيسيون). وتنتشر بين سكانها اللغة الصينية واللغة الماليزية العامية. وتعتبر الإنكليزية لغة أساسية. كما يعتنق 15 % من سكان سنغافورة الاسلام أما البقية فيعتنقون البوذية والكنفوشية والطوطمية والمسيحية.
بناء الإنسان والاهتمام بالتعليم في المقدمة
إن الاسس التى اعتمدت عليها سنغافورة في تحقيق معجزتها اعتمدت اصلا على بناء الانسان وقبله الاعتماد على القيم الحضارية والتاريخ والتقاليد ومن ثم الانطلاق الى الاخذ بمقومات بناء دولة حديثة لا تعرف حدودا للتطور.
إن ثمة مجموعة اسس يمكن الاعتماد عليها في توضيح هذه المعجزة اولها تبني نظام حازم لتحديد النسل حيث لم تتجاوز نسبة زيادة السكان 1.9% في 1970 و1.2% في 1980، مما جنب البلاد كارثة الانفجار السكاني التي تمثل عائقا مخيفا للتنمية.
لكن ما إن اصبح الاقتصاد السنغافوري في حاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة المؤهلة حتى غيرت الدولة سياستها السكانية في الاتجاه المعاكس باعتماد برنامج جديد يهدف لتحفيز المواطنين لزيادة النسل، خصصت له ميزانية تقد بـ 300 مليون دولار.
هذا التغير في السياسة السكانية ناتج عن أن كل مولود جديد في مرحلة التخلف يعني عبئا على الاقتصاد، بينما في مرحلة النمو و التقدم ومع توفر الخدمات التعليمية و الصحية اللازمة للأطفال فان ذلك يجعل منهم ثروة بشرية تدفع بدورها عجلة الاقتصاد إلى الأمام.
أما الاساس الاهم فارتكز الى سياسة تعميم التعليم وتحديثة باعتماد أفضل المناهج في العالم حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية، بينما لم تستطع دولة عربية واحدة أن تكون من ضمن الـ 30 دولة الأولى في آخر النتائج المنشورة للتقييم الدولي للتقدم التعليمي في مادة الرياضيات على سبيل المثال .
واعتمدت المعجزة السنغافورية على اساس اخر لا يقل اهمية عن الاول والثاني حيث اعتمدت على بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالي 50 ألف موظف لا اكثر) وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة.
كما تم الاعتماد على اسس وظيفية تمثل نموذجا يمكن ان يدرس، من بينها ان التعيين في مختلف الوظائف يتم عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع بينما يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إن لم يكن أعلى (200 ألف دولار راتباً سنوياً للوزير كمثال) الى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الاداري والمالي الى حد ان سنغافورة تتصدر حاليا مؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
التعليم أولاً
من ناحية أخرى، رسم لي كوان يو خريطة نمو البلدان، ناهلا من خبرته فـي تأسيس دولة سنغافورة العصرية، قائلا: (الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فـيه عندما استلمت الحكم فـي دولة فقيرة جدا، اهتممت بالاقتصاد اكثر من السياسة، وبالتعليم اكثر من نظام الحكم، فبنيت المدارس، والجامعات، وارسلت الشباب الى الخارج للتعلم، ومن ثم الاستفادة من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافوري).
وتابع: (لقد جعلت سنغافورة خضراء، ونظيفة، على الرغم من ضيق المساحة التي لا تتعدى ال 700 كلم مربع، فشجعت على نشر محلات الزهور بدل المساحات الخضراء الشاسعة مثل فـي شنغهاي).
ورفض لي كوان يو مقولة انه عندما اخذ بالنموذج الاميركي بدل الروسي نجح فـي بناء دولة قوية، وقال: (صحيح اخذنا الكثير من الاميركيين، لكننا نعرف ان ظروفهم غير ظروفنا، واقتصادهم غير اقتصادنا، وجيرانهم غير جيرانننا، نحن سعينا الى تخصيص القطاعات والاعتماد على مهارات الافراد ونجحنا فـي تطوير بلدنا الصغير). وأكدالزعيم السنغافوري ان الولايات المتحدة لا تريد اقتصادا فـي العالم يوازيها لذا تعمل على فتح الأسواق. وختم لي كوان يو حديثه بالقول: (اصنعوا الانسان قبل اي شيء، امنوا المرافق والخدمات ثم اجعلوه يستخدمها بطريقة حضارية ونظيفة، واعيروا التفاصيل الحياتية اليومية كل الاهتمام).
واضع تفاصيل حياة السنغافوريين
لا يوجد شيء في سنغافورة لم يلحظه بصر لي كوان يو الثاقب أو ترقبه عيناه المتيقظتان: بدءا من اختيار النباتات لتحويل سنغافورة إلى واحة خضراء، مرورا بتجديد فندق رافلز الرومانسي، وانتهاء بحث الشباب، بشكل سافر وصريح وجريء، على الزواج من فتيات في مستواهم الثقافي نفسه. وتحمل سنغافورة النظيفة بصمة لي كوان يو الواضحة، ولا يعتذر عن تأثيره النافذ في بلاده: ‘إذا كانت سنغافورة دولة مربية، فأنا فخور برعايتها وتنشئتها’.
واختار لي كوان يو اللون الابيض للباس حزب العمل الشعبي الحاكم. وسأله مرة أحد الصحافيين عن سبب اختيار هذا اللون، فأجابه ‘هذه الملابس ترمز الى الشفافية والنظافة’.
دخل الفرد
في بداية السبعينات بلغت واردات سنغاورة ملياري دولار وقفز عام 2010 إلى 361 مليار دولار، كما بلغ متوسط دخل الفرد 56,694 دولار سنوياً، لتكون بذلك ثالث أعلى دخل في العالم حسب احصائيات صندوق النقد الدولي.