مخاطر التفوق والإبداع

الإتحاد – د.الياس البراج

في الأنظمة القديمة كان يمكن التحكم في مصائر البشر والشعوب أو جزء كبير منها عبر أجهزة التعليم والتوجيه والدعاية والإعلام، والأجهزة القمعية إذا لزم الأمر. وبحكم التطور المتراكم في الوعي من جهة واتجاهات «الفردانية» من جهة ثانية باتت نسبة هذا التحكم أقل لكون احتمال أن يفلت الشباب والناس من الرقابة بات أكبر. كما أن طموحات بعض الدول والأنظمة جعلتها أحيانا تختار تشجيع الإبداع والتفوق، إما لمساعدتها على الاستمرار في مواجهة خصوم فعليين أو مُحتملين، أو لانعدام الوسائل الأخرى التي يمكن أن تحقق لها تنمية حقيقية.


 

بعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأميركية، بنت مشروعها من أساسه على الحلم وما يلزمه من حريات وإبداع مستمر وسخّرت لذلك معتقدات دينية وفلسفية تربط الإيمان والدخول إلى الجنة بضرورة النجاح في الدنيا. أوروبا ارتأت أن تكون أكثر اجتماعية وإنسانية وأقل خضوعاً لجموح رغبات الدنيا وثقافة السوق وحركة رأس المال.

لكن العولمة والمنافسة الشرسة والثورة الراهنة في الاتصال وانتقال البيانات والمعارف ألقت تحديات على الجميع وإن بنسب متفاوتة وأوجدت في الوقت نفسه نماذج جديدة -في آسيا خاصة. وقع الكثير من الأثقال المبكرة على الدول الفقيرة والأقل نمواً التي لم تكن قد استعدت بعد للتعامل الندّي في العلاقات الدولية. كثير من هذه الدول لم يجد مهرباً من حث شعوبه على الابتكار والإبداع وضرورة التفوق في عالم المنافسة، وأحياناً باباً شبه وحيد للتنمية. ولا ضير من ذلك أياً كان السبب وطالما أنه يصب في تحسين بيئة الإنسان، لكن وسط زحمة التحولات الاقتصادية والتجارية العالمية، وضعف الصغار حين يُخطط الكبار، لا بد أيضاً من الالتفات والانتباه إلى بعض المخاطر والتداعيات السلبية التي تتركها المبالغة في الدعوة والحشد للتفوق والإبداع.

ومن ذلك مثلاً، أن الطاقات والأفكار المتأتية عن هذا الحشد قد تصطدم بجدران ممانعة عصية على التعديل أو التغيير ومستحيل معها أي توفيق وذلك مثل أصحاب المصلحة في الواقع القائم وآلياته. ومنها أيضاً أن البنى القائمة، رغم كل النوايا السليمة للقائمين عليها، قد تكون عاجزة بطبيعتها عن استيعاب ثمار الابتكار وأفكار المتفوقين، ومنها كذلك أن بعض هذه الأفكار قد تكون مخالفة للمعتقدات السائدة لدرجة لا تحتمل أي شكل من التعايش. وفي حال اجتماع اثنين أو أكثر من هذه المخاطر في الوقت نفسه تتحول المخاطر بلا شك إلى خطر داهم ثم نزاعات وصراعات.

وكل ذلك لأنه لم يتم الاستعداد كفاية لاستيعاب الأفكار الجديدة وتطبيقاتها، أو للغفلة عن التخطيط للمرحلة التالية لتشجيع الطاقات الجديدة ومخرجات التفوق وتطبيقاتها، أو الاعتقاد بأن كل ذلك ليس إلا وسيلة لمواكبة موضة العصر أو إحكام السيطرة. كما أن تشجيع الإبداع يلزمه ما هو أكثر من المال والمنح ودعم مشروعات الشباب، يلزمه الانفتاح الذهني (الداخلي) الذي يتقبل عن رحابة صدر التعدد والموجات القادمة من الأفكار الجديدة. غير أن أول ما يلزمه المشروع الحضاري الكبير، الذي يوفر -إلى جانب الحلم المادي الفردي- دافعاً روحياً يدب معه الحماس في الأوصال والمفاصل الرخوة والمتكاسلة.

Image