الدكتور سيف بن ناصر المعمري
إذا أردت أن تفهم أي نظام تربوي فعليك أن تفتش عن المنهج، وإذا أردت عن تعرف سر تقدم أي مجتمع فعليك أن تفتش عن المنهج، وإذا أردت أن تعرف سبب تراجع أي مجتمع فعليك أن تفتش عن المنهج التربوي، فالمنهج هو العمود الفقري للتربية، نعم لا يوجد أي نظام تربوي يعمل بدون منهج، ولكن هناك نظام تربوي يفهم المنهج بأنه فقط الكتاب المدرسي ويعمل على حشو أذهان الطلبة بما جاء فيه،
وهناك نظام تربوي يرى أن المنهج هو تقديم خبرات حية للطلبة تساعدهم على أن يتعلموا أساليب عيش واعية، فإلى أي الفريقين نقف نحن في هذه المرحلة التي لا نزال نبحث فيها عن وصفة تربوية نتغلب بها على تحديات الحاضر ونستعد بها لمواجهة إكراهات المستقبل.
إننا لا نزال نقرأ هنا وهناك مقالات وأحاديث تدور حول تطوير المنهج، ونتفاجأ أن هذا التطوير لا يزال يعطي اهتمام أكبر للمادة العلمية، ولكننا نسمع القليل عن دور المدرسة في بناء التفكير والوعي عند الطلبة، لا نزال نتناقش في أي الدروس التي ينبغي أن تحذف، وأيها ينبغي أن يضاف، ولكننا لا نزال بعيدين عن هذا الطالب الذي يذهب إلى المدرسة كل يوم، ويجبره المنهج التقليدي على الجلوس طوال ساعات اليوم للاستماع إلى حصص نظرية متتالية لا تساعده على فهم العالم من حوله، واكتشاف الحقيقة من وراء الأحداث التي تجري فيه، فأي حياة يتمتع بها هذا المنهج الذي نتحدث عن تطويره، أين التركيز على بناء الروح النقدية عند الطلبة؟، أين المساحات التي يتيحها هذا المنهج لإعمال العقل؟، إذا لم يساعد المنهج على بناء التفكير فهو يشل التفكير، وبذلك يخنق القدرات الكامنة المتحفزة على الإبداع، والإنتاج.
إن تطوير المنهج ينبغي أن يركز على خلق مزيد من الفرص للطلبة للاستمتاع بالتعلم، الطلبة في هذه المرحلة يحبون الشيء الذي يستمتعون به، أنظر إلى الهوس الذي يبديه شبابنا الصغار بكرة القدم ومتابعتها إنه ناتج من استمتاعهم بها، أذن لا شيء يجعل من الحياة المدرسية ناجحة إلا المتعة، إن المنهج اليوم يقدم بطرق جافة لا تساعد على توليد لذة في التعلم، وتصبح الأيام الدراسية تكرار لبعضها، وتذهب بنا الأيام إلى الاختبارات الفصلية والنهائية وينتهي فصلنا الدراسي بدون أن يترك الأثر الذي كنا نأمله، لأننا لم ننجح في بث الشعور بالحياة في هذا المنهج.
ونعود بعد ذلك نتساءل ما الذي صنعته المدرسة بهؤلاء الصغار؟ وما الهدف الحقيقي للتربية هل مهمة التربية بناء مستودعات من المعارف في ذهن الطالب؟، أم أن مهمتها هي إنشاء مصانع بفكر جديد يستجيب لتغير الحياة؟ هل وظيفة التربية خلق شخصيات بنمط واحد أم مساعدة كل طالب على تحقيق ذاته المستقلة؟ هذا التساؤلات لا تزال مستمرة من أن بدأت التربية تحاول أن تجعل من نفسها علماً مقارنة ببقية العلوم التطبيقية.
إن مهمة التربية –وإن غلبت اللغة المثالية على كثير من منظريها- هي مساعدة الطلبة إلى الانتقال من طور الإنسانية إلى طور الإنسانية الكاملة، هذا الهدف الإنساني لا يمكن أن نتجاهله تحت ضغط متطلبات سوق العمل، فنركز على المعرفة الوظيفية لكن لا نتيح للطلبة تكوين إحساسهم الانساني بذاتهم، وبمجتمعهم، لأن كثير من إشكالاتنا اليوم هي ربما نتاج ضعف الصفة الإنسانية للمنهج المقدم.
أن أي نظام تربوي بحاجة إلى مساعدة الطلبة على تكوين اتجاه إنساني للانتماء للجماعة أو المجتمع الذي يعيش فيه، ويؤثر ويتأثر به، وتكوين هذا الشعور لن يتأتى إلا إذا نظرنا إلى المنهج على أنه مجموعة من الخبرات الحياتية، فكيف يمكن للطالب أن يكون الشعور بالانتماء إذا لم يتيح المنهج فرص لخدمة مجتمع البيئة المحلية؟ كيف يمكن للطلبة الوعي بدورهم في مساعدة المحتاجين إذا لم يسمح المنهج بتنظيم زيارات إلى هذه الفئات، فلا يكفي أن نقول في المنهج أن من واجب الإنسان أن يساعد الفقراء والمحتاجين ولم نقدم له خبرة علمية ترسخ لديه الاتجاه.
ولكن هذا البعد للإنساني في التربية ظل متأرجحاً بين مجموعة من رؤى الفلاسفة، فالبعض يرى أن التربية وسيلة لإعداد نخبة سواء في المجالات الدينية أو السياسية أو الاقتصادية، حيث رأى أفلاطون أن هدفها تكوين مجتمع منسجم، بينما رأى أرسطو أن وظيفتها هي تكوين مواطنين قنوعين، أما بلتارك فيرى أن غايتها مساعدة الطلبة لتكوين أسر سعيدة، أما رابله ورويال ولوك فيرون أن التربية ينبغي أن تركز على تكوين نخب متنورة، ورأى كوندياك وإلفيتيوس بأن هدفها هو تكوين علماء من أجل دفع عجلة الإنتاج، في حين يرى جان جاك روسو بأن هدفها هو تكوين إنسان بغض النظر عن ما هو منتظر منه، هذا الإنسان ينبغي أن يجد التربية التي تساعده على فهم ذاته بداية، ومن ثم فهم العالم من حوله من خلال فهم أساليب العيش التي تعارفت عليها البشرية مما ساعده على الاندماج في المجتمع، والتخلص من مشاعر العزلة أو التمركز حول الذات أو الأنا بدون الشعور بالآخرين.
إن تكوين هذا الإنسان الذي يشعر بغيره من الأهداف الرئيسية لأي منهج وهي تمثل إحدى القيم المهمة التي يمكن غرسها بصور ة أكثر علمية، والتعلم عن طريق الخبرة كما تشير الدراسات أبقى أثراً في شخصية الطالب، فعندما تعرضت اليابان لزلزال مدمر لاحظنا أن كثير من المدارس الخاصة أو العامة خصصت أيام للتبرع من أجل مساعدة اليابان، هذه الخبرة سيكون لها أثرها في تعميق الشعور الإنساني، مما يؤدي إلى تذويب كثير من الإشكاليات التي تنتج نتيجة سوء فهم الآخرين من مختلف الشعوب والحضارات.
وبالتالي فإن الخبرة الإنسانية العملية التي يحظى بها الطلبة تعتبر عامل من عوامل تضييق الفجوة بين النظرية والتطبيق في التربية، هذه الفجوة تنتج من توجيه المنهج إلى نقل المعرفة بدلا من توجيه إلى بناء الإنسان الذي يحتاج إلى مهارات عقلية ووجدانية ومهارية حتى يتمكن من أن يكون إنسانا قادرا على التفاعل مع الآخرين في مجتمع، فالإنسان من وجهة نظر إيراسموس (Erasmes 1469-1536) “لا يولد إنساناً بل يصير كذلك”
أذن لابد من توجيه التربية بشكل عام والمنهج بشكل خاص إلى بناء الإنسان بدلاً من إعطاء الاهتمام الأكبر للمعرفة فالمعرفة هي مجرد وسيلة والإنسان هو الغاية، فالتركيز على قيم الحرية والنقد والتفكر والتدبر من القيم الأساسية لبناء إنسان يعي ما معني إنسانيته، وإذا كان الهدف بناء العقل فلا يمكن تحقيق ذلك من خلال اللجوء إلى طرق تقليدية في بناء المنهج وتنفيذه.
خاص بمدارسنا دوت نت