د.سيف بن ناصر المعمري
مدارسنا.نت : يمر المجتمع بمرحلة يلتفت فيها إلى ذاته، يحاول أن يقرأ واقعه والتغيرات التي مر بها وكيف أثرت على قيمه، لذا تمتلئ ساحات الحوار والنقاشات على كافة المستويات حول القيم، تثار فيها العديد من الأسئلة منها: هل تغيرت القيم؟ وهل مازالت موجودة
في المجتمع أم أنها بدأت في التلاشي؟ هل القيم إسلامية؟ أم إنسانية؟ ومن المسؤول عن غرسها وتنميتها؟ هل المدرسة وحدها المسؤول الأول والأخير عن غرس القيم كما طالعتنا كثير من النقاشات؟ أم أن الأسرة لها الدور الأكبر؟ أسئلة كثيرة تشير إلى عدة نقاط أهمها أننا كمجتمع بدأنا نفكر في بنيتنا الثقافية في ظل تغيرات سريعة نمر بها، هذه الوقفة لها أهميتها في تعرف واقعنا وكيف أثرت الحياة الحديثة في قيمنا التي تعبر عن أصالتنا، هذه الأصالة التي نراهن عليها لتميزنا عن غيرنا في عالم يموج بالأفكار والأساليب الحديثة.
كل يطرق الباب من وجهته، ويحكم على الموضوع من منظوره، ومهما اختلفت الأحكام تبقى القيم هي القيم التي تجتمع عليها البشرية في تعاملها مع بعضها البعض، ولكن تتفاوت درجة تمسك الأفراد بها على اختلاف جنسياتهم وأطيافهم الدينية، وأعمارهم، كل حسب إيمانه بما ورد في تعاليم دينه، والبيئة التي نشأ فيها والتربية التي تلقاها، والمؤثرات المجتمعية الأخرى من رفاق، وما يتعرض له من خبرات مسموعة أو مقروءة أو مرئية وتحليلها في عقله وكيفية الاستفادة منها.
نسمع دائما كلمات يتقاذفها البعض أن القيم اندثرت في هذا الزمن، وأن هذا الزمن ليس بزمن القيم، وأن الأشخاص تطبعوا بالغرب وبدأ الشباب بإحلال الطباع الغربية على سلوكهم وملابسهم، وكثير من الأطباق الغربية تغزوا بلادنا ويتجه إليها الشباب بقوة. فهل هذا يعني فقدان وتفلت لقيمنا؟ وهل الزمن هو من صنع هذا بنا؟ وهل من ذهب للغرب يبهر بما يرى ويتمنى أن يتطبع بما لديهم؟ إن تأثرنا بالعالم المنفتح الذي نعيشه اليوم وعالم الموضة الصارخ رغما عنا لا يعني تفلتا لما نملك من قيم، فما العيب في ممارسة سلوك غير مشين أو لبس غير فاضح طالما يمتلك الشخص قيمه في التعامل وسلوك الحياة الأخرى،وأن نأكل ما يقدم لنا من باب التغيير وتجريب ما عند الآخر إن كان غير مضر ولا حرام، ومن ذهب للغرب ورأى نظام العمل السائد وتقديس الناس لعملهم والإخلاص فيه وهذا سائد لديهم على مستوى المؤسسات، فما العيب من حب الأفضل والسعي إليه؟ العيب ليس في الانفتاح ولكنه يكمن في أن نأخذ ما لا يليق بنا، أو نطلق تعميمات وأحكام على الأشياء دون تحليلها منطقيا وتجريبها والنظر بإمعان في ماهيتها، ننتقد الشباب كتقليعات وسلوكيات، دون النظر هل تؤثر هذه السلوكيات على شي من قيمه الأصيلة أو تؤثر سلبا على حياته ومجتمعه، وهل لهذا الشاب بديلا عن ذلك يرضيه على مستوى عمره وما يعيش فيه من عصر؟ وهل اللوم والانتقاد والتوعية لشيء غير مضر مجرد القول بأنه تقليد للآخر يقنع هذا الشاب ويرضيه؟ ما أود قوله هو ترك الباب مفتوحا أمام ما هو غير مضر، والعمل على الحد من الضار والسلبي، وتفحص القول أو الحكم قبل تعميمه.
نقع دائما في مطب تعميم السيئة وبالأحرى أن تخص صاحبها، وتعم الحسنة كسمة للمجتمع، فإذا تعاملنا مع مقاول عقاري وحدث سوء فهم أطلقنا تعميم بأن المقاولين سيئون، ربما أسجل هنا ملاحظة بأن المجتمع اليوم بدأ ينصرف نحو الحياة المدنية المليئة بالماديات، ولكن لا يعني هذا فقدان القيم الموجودة في طباع وسلوك الأفراد، وإن تعددت اهتماماتهم، ولا يعد ذلك تناقضا، فالاهتمام بشي لا يعني بالضرورة عدم الحفاظ على وجود شيء آخر.فنحن هنا أمام تعميمات مجتمعية تجعل السئية سلوكا عاما مثل القول بأن كل المعلمين لا يرغبون في مزاولة مهنتهم وبالتالي فهم مقصرين في أخلاقيات وقيم مهنتهم واجباتها، رغم وجود أعداد كبيرة منهم كثيرون العطاء، مخلصون ملتزمون بما تمليه عليهم المهنة، فلما دائما النظر للعود اليابس من الشجرة وترك الأخضر النضر الذي يسر ناظريه.
لا تعرف القيم هوية، فما صلح عم بالخير وما فسد عم بالسلب، وجميع الأديان السماوية في أصلها جاءت بالخير وتدعو للفضيلة، وجميع القوانين الأرضية في أصلها لتثبيت الصالح وتعميم الخير على البشرية، ولكن يبقى الفيصل في من هو متمسك بهذه الفضيلة، فلا نُحمِّل دينا أو مكانا أو زمانا القصور والبعد، ولكن كما ذكرت سابقا تظهر الفروق الفردية حسب المتغيرات المحيطة بالشخصية لتخرجها مكونة من عدة قيم واتجاهات ومبادئ وأفكار وسلوكيات تنخرط في المجتمع مؤثرة فيه ومتأثرة به، وهذا ما يجب أن يتعلمه الطلبة عن القيم على أنها إنسانية متنوعة وأن قيمتها وجدواها تظهر عندما نعمل بها.
والسؤال الذي يتردد كثيرا خلال هذه الفترة هو من المسؤول الأساسي عن غرس القيم؟ وظهر معنا ثلاثة اتجاهات: فريق يرى أنها المدرسة، وفريق يرى أنها الأسرة، وفريق ثالث يرى أنها مكونات المجتمع من أسرة ورفاق ومدرسة بما فيها من متغيرات، ووسائل إعلام، ومؤسسات دينية وأخرى اجتماعية، يتداخل تأثيرها على قيم الفرد، فالكل يتحمل عملية التنشئة وغرس القيم، وإن كنت أرى بأن الأسرة هي الأساس، فهي الوعاء الذي يحوي الفرد، فهو منه وإليه بشكل مباشر ومستمر، فالوالدان اللذان اتخذا قرارا بأن يؤسسان أسرة مكونة من عدد معين من الأولاد، من الأحرى بهم أن يعلمان قبل اتخاذ ذلك القرار حدود طاقيتهما في التربية والتعليم والتقويم المستمر والمتابعة، والعطاء لمن كانا هم السبب في وجودهم على وجه الأرض، فما يفسده المجتمع تقومه الأسرة، بل إن عليها تقوية العود من الأساس قبل أن يكبر حتى لا يكون عرضة لعصف الرياحين، فأراه من غير المقبول أن يطلب الوالدان من أي مؤسسة تربوية أخرى بأن تقوم هي بالدور وذلك بحكم قيام مؤسسة بدور التربية والتعليم ومؤسسة أخرى بتقديم الأمور الدينية وأخرى بتقديم برامج اجتماعية ورياضية لهم، ويلومانها على التقصير وهما قد قصّرا في عملهما في البداية فلما لا يوفر لهم المنزل هذه الأشياء دون انتظار الغير القيام بها، بالطبع هذه ليست دعوة لتبرير تقصير المؤسسات الأخرى، أو حجب المسؤولية عنها، ولكن تأكيدا وتشديدا على دور الأسرة كنواة مسؤولة عن بذرتها ومكونات هيكلها.
بشرى سارة أحملها بين طيات هذه السطور، بأن القيم موجودة لأنها متأصلة في ديننا، وفي ضمائرنا، وإن بدأت تفقد بريقها في أشخاص عدة من المجتمع فهي موجودة وبوضوح الشمس في سلوك أشخاص ومؤسسات أخرى في المجتمع ذاته، لذا لا نقلق فطالما الخير موجود كبذرة سيعم فهو الأبقى وعوده الأقوى، لأن جذوره ثابتة في الأرض وفرعه في السماء، فلنصالح ذواتنا ونطمئنها بالخير، ونكاتف أيدينا لصنع منها يدا من حديد تحفظ قيمنا وتصنع منا أمة مجد بقيمها الفاضلة، ولكن هذا وحده لا يكفي بل لابد أن تقوم مؤسسات التنشئة بعملية ترسيخ هذه القيم بأسلوب بعيد عن طرق الوعظ السطحية والنظرية التي لم تؤتي ثمارها، فلا يكفي أن نعلم الطالب أهمية النظام في مادة التربية الإسلامية والدراسات الاجتماعية، في حين يعيش الطالب في واقع اليوم المدرسي عدم الالتزام بالنظام أمام الجمعية التعاونية، وأثناء ركوب الحافلات؟ هنا تنشأ فجوة بين النظرية والتطبيق لا تساعد على الحفاظ على الجانب المشرق من قيم المجتمع.