جيلان إبداعيان: متكاملان أم متلاغيان؟

إبراهيم اليوسف

لا يمكن النظر إلى الإبداع، في أي مجال كان، سواء في عالم كتابة الشعر والسرد، أو في عالم الموسيقا، والتمثيل والرسم، إلا أن له دورة مستمرة، وإن هذه الدورة هي في حاجة -دائمة- إلى الأسماء الجديدة، كما هي بحاجة إلى الأسماء القديمة، إذ إن هذين الطرفين: الاسم الجديد، والاسم القديم، هما طرفان لا بدّ منهما، في معادلة الإبداع، وإن أي إقصاء لأحد هذين الطرفين الرئيسين، إنما يؤدي إلى خلل المعادلة برمتها .


 

وعندما نأتي ونضع أسماء الراسخين في مجال الإبداع، في مجال ما، وليكن التمثيل، على سبيل المثال، تحت مجهر التقويم، فإننا نجد أن هؤلاء قد اكتسبوا تجربة مهمة، في مجال تطوير هواياتهم، عبر شريط زماني طويل، استطاعوا خلال تلك الفترة، من مراكمة الخبرات، وشق الطريق، إلى أن يصبحوا “نجوماً” كما يقال عنهم، عبر مصطلحات عالم الفن، بل إنه لايمكن تجاوز هؤلاء، لأنهم يتحولون إلى عناوين بارزة في حياة أي بلد، وإن بعض هؤلاء يستطيع تحقيق مراحل إبداعية، ليكون عبارة عن “مدرسة”، في مجال الإبداع، ما يجعله يشكل امبراطوريته، ولو الافتراضية، لأنه يكون هناك من ينتظر جديده، ويتم الحديث عن الخط البياني الإبداعي، عبر شتى مراحل تجربته الإبداعية، كاسم كبير .

ولكي نكون منصفين -هنا- فإن عامل السبق الزَّماني، لايمكن له أن يكون كافياً، في تطوير أية موهبة إبداعية، لأن عوامل الإبداع هي عديدة، وإن شرط الخبرة، والذي يعدُّ أحد معطيات العامل الزماني، هومجرد شرط، بيد أنه غير كاف، في ظل انعدام الموهبة، لأن رصيد الخبرة، لن يكون كافياً البتة، في صناعة موهبة يشار إليها بالبنان، وتسجل حضورها في الحياة الثقافية والفنية، بل والعامة، وإن هذا الشرط يعدّ ضرورياً لمن يمتلك المقومات الأخرى للموهبة، ومنها سلامة الفطرة، والقابلية، والثقافة، وإنه في ظل توافر شروط الموهبة -جميعها- فإن العامل الزماني، يكسب صاحب الموهبة ما يستحصله من خبرات لازمة، من خلال احتكاكه بجمهوره، أو من خلال تواصله مع المشهد الفني، إلى تلك الدرجة، إنه ما من محطة في تاريخه الفني، إلا ويكون لها أثرها في تقدم موهبة، وكأن هذه الخبرات هي وقود استمرارية الموهبة .

وثمة مأزق قد تتعرض له، هذه الأسماء، وذلك بعد مضي فترة زمانية من عمر تجربتها، يتجلى في استنساخ المبدع إبداعه، وتكراره، إلى تلك الدرجة التي لم يعد متابعه يشعر بالبعد الإبداعي، في الأنموذج الذي يقدمه، ولعل سبب هذا الشيء يكمن في أمرين، أحدهما هو: ثقة هذا الفنان بعطائه، حيث يتم التصاق هذا العطاء بناظريه، إلى الدرجة التي لايمكنه الخروج من تحت سطوته، وهنا يتم تبلد العامل النقدي الذاتي لديه، في لحظة تضخم الذات، واعتبارها مثلاً عالياً، لايمكن لأحد الوصول إلى الذروة التي حققها، والثاني يكمن في ضعف التواصل مع مناهل الثقافة، والتقوقع، وعدم التواصل مع تجارب الآخرين، وربما التعامل معها، بالاستعلاء عليها، واستتفاهها، وهو ما يؤدي إلى نضب أوردة الموهبة، ومواتها، عبر التجفف التدريجي، وما أكثرأن نرى مواهب كبيرة، ذات بصمات واضحة، في التاريخ الفني، بيد أن عطاءها، ينحدر بعد بلوغه تخوم القمة، كي يؤول إلى نهايات لا تليق به، قد يسميها بعضهم ب “الهاوية”، وإن هذا الصنف من المبدعين، إنما تسيء مآلات تجربته، إلى نفائس أعطياتها الكبرى، في أحايين كثيرة، إلى درجة نسفها نفسها .

أما إذا وضعنا الأسماء الجديدة، في عالم موهبة التمثيل ذاته، تحت مثل هذا المجهر التقويمي، فإننا نكتشف أن هذه الموهبة تعتمد على مجرَّد طموحها، متكئة على الرصيد -الخام- كما يقال، عادة، وهو رصيد قد يكفي لوضع أي اسم من هذه الأسماء على تخوم نقطة الانطلاق الأولى، كي يختار مساره، وربما أنه استطاع، أن يواصل الانطلاق إلى مسافة زمانية محدَّدة، كأن يشترك في عرض مسرحي واحد، أو أكثر، بيد أنه يبقى في حاجة دائمة إلى الاستفادة من مصادر عدة وهي: الثقافة العامة والثقافة التخصصية، ومن ثم التراث الإبداعي السابق عليه، إضافة إلى الإنتاج الإبداعي الراهن الذي لابدَّ من الاطلاع عليه، والتفاعل معه، سواء أكان محلياً، أم عالمياً، على حد سواء .

والتحدي عينه، الذي أشرنا إليه، أثناء الحديث، عن مأزق الاسم الإبداعي الراسخ، إنما يمكن الاستشهاد به، هنا، وبغضِّ النظر عن حصيد الاسمين، وإن على نحو مختلف، قليلاً، وذلك، عندما تجد اسماً ما، يحقق قفزات عالية، في مجال الإبداع، في أحد أعماله الأولى، أو حتى في أكثر من عمل، إلا أن موهبته، سرعان ما تتقزم، وتضمحل، وتتلاشى، وتتصحر، عبر عمر إبداعي قصير، لتكشف عن خواء مؤلم، لهذا الاسم، ولعلَّ مردّ هذا هو أن هذا الموهوب، لم يتكىء على تجربة ثقافية إبداعية، غنية، أثناء انطلاقته، وإنما اعتمد على مجرد عامل المثاقفة، وهو قد يكون متوافراً، لدى أوساط واسعة، عادة، وقد يدفع-أحياناً-الخاملين، وعديمي الموهبة، إلى وهم التباس الموهبة، إلى أن يكتشفوا حقيقة وقائعهم، وهنا، فإن على كل صاحب موهبة، سيان إن كان جديداً، أومعروفاً، ذا حضور، أن يستفيد من شقي النقد:من قبل الجمهور، العامة، أومن قبل المتخصصين، شريطة أن يكون هذا الأخير موضوعياً، يقوم هذه الموهبة، كما هي، في نقاط قوتها، وضعفها، على حد سواء .

وثمّة نقطة مهمة، لابد من الإشارة إليها، في هذا المقام، وهي أن هناك تشاكياً متبادلاً بين صاحبي الموهبة المعروفة، ذات الحضور، والموهبة الجديدة، ويكمن في أن الاسم الجديد، دائم الزعم أن الاسم السابق عليه، يمسك بيديه، بكل مفاتيح العمل، ويمارس استبداداً، بحق كل اسم لاحق، ولايفسح المجال أمامه، وذلك لأسباب معروفة، تحت صفات ومسميات كثيرة، قوامها الذاتية، بل ربما الأنانية، وعدم تقبل الجديد، لاسيما أننا قد نجد -الاسم الجديد، رافضاً لكل الأدوات والأساليب والتقنيات التي كان يلجأ إليها السابق عليه، لأنه “ابن ثقافة غيرثقافة عصره” وإن التطورات التي يشهدها العالم، على الصعد كافة، يتأثر بها الاسم الجديد، ربما بحساسية أعلى من حساسية السابق عليه، وهنا لو لجأنا إلى تشخيص أسرة فنية، هي أسرة الفنان عادل إمام، فإن ما أتيح لنجليه المخرج رامي أو الفنان محمد، لم يتح له، فهما يستفيدان من تجربة أبويهما، وجيله، ومن سبقهم، كما أنهم ينتمون إلى ثقافة فنية هي ثقافة عصرهم، ذي الملامح الفارقة المختلفة، دون أن ننسى أن الاسم الذي عانى، وجاهد، ليشقَّ طريقه، وسط حالة من ضحالة النماذج، واستطاع أن يؤسس علاماته الفارقة، إنما هو جدير بالثناء، وهكذا فإن ابن الجيل السابق على الجديد، من حقه الدفاع عن جيله الإبداعي الذي لم يجد “ملعقة ذهبية” للموهبة، بل عانى، وكابد، وهو يؤسس أرضاً صلبة يقف عليها .

وإذا كنا، في البدء، قد تناولنا مجرد أنموذج في عالم الإبداع، وهو فن التمثيل، ويمكننا سحب هذا المثال، على المجالات الإبداعية الأخرى التي أشرنا إليها، في استهلالة هذه الوقفة، فإنه لابد من التركيز على أمر جوهري -لا بد منه- وهو أن هناك تكاملاً ومواءمة بين أي جيل سابق ولاحق، لا تلاغي، ولا تنابذ، حيث يستفيد اللاحق من السابق، بل ربما يستطيع الجيل السابق ذاته، الاستفادة، من الإنجازات الجديدة التي حققها الجيل اللاحق، بعيداً عن عقدة الاستكبار التي ليس أخطر منها على الموهبة الإبداعية، مهما تألقت، وانفردت، وشمخت .

Image
Image