عُمان: انطلقت مساء أمس الأول بجامعة السلطان قابوس فعاليات الملتقى الخامس للقصة القصيرة الذي تنظمه جماعة الخليل للأدب ضمن خطة أنشطتها لهذا العام الجامعي، وذلك تحت رعاية الدكتور بدر بن هلال العلوي عميد شؤون الطلاب.
حيث اشتملت الجلسة الافتتاحية على قراءات في القصة القصيرة قدّمها كل من الكاتبة والقاصة هدى حمد والقاص وليد النبهاني، حيث تناوبا معا على قراءة قصص من أعمالهما بين المنشور منها وغير المنشور.وقبل ذلك قدّمت الدكتورة فاطمة الشيدية ورقة نقدية، حملت عنوان (القصة العمانية اتجاهات وملامح وأساليب)،أشارت بادئ الأمر إلى رائد القصة العمانية عبدالله الطائي، الذي بدأ الكتابة منذ أربعينات القرن الفائت، إلا أنه لم يُنشر إلا متأخرا..تبعه في الستينات والسبعينات من ذات القرن محمود الخصيبي وأحمد بلال، وسعود المظفر وغيرهم..ثم أكدت فاطمة الشيدية على أنّ “حقبة الثمانينات كانت هي بداية القصة القصيرة الموثقة في عمان حيث تعد مجموعة “سور المنايا” لأحمد بلال المجموعة الأولى التي تم نشرها 1981″.
بعدها عمدت إلى تقسيم القصة في عُمان إلى ثلاثة أجيال من الناحية الزمنية والفنية، بدأت بتتبع جيل الثمانينات، فوجدت المجموعات القصصية فيه تميل إلى الذاتية في الكتابة وتتراوح اللغة بين لغة المحكي الاجتماعي العام، والكتابة القائمة على السرد المباشر، وتقل فيها التقنيات الفنية، ويحضر الزمن بشكل موارب بينما يظهر المكان بوضوح، وتميل أيضا لتوظيف الموروث، وذكرت عدّة أمثلة من كُتاب هذه المرحلة منهم:أحمد بلال، محمود الخصيبي، أحمد الزبيدي، وغيرهم. ثم انتقلت للحديث عن جيل التسعينات، ورأت الشيدية أنّ مرحلة التسعينات هي مرحلة التكوّن القصصي الأكثر امتثالا لشروط السردية، بلغتها، وشخوصها وحبكتها والأكثر قربا من المذهب الواقعي الاجتماعي، وقد ربطت ذلك بظهور بعض التعقيدات في المجتمع الانتقالي من المرحلة القروية إلى مرحلة المدينة، تخلصت في هذه المرحلة اللغة من مباشرتها واستحدثت تقنيات أكثر في فنية الحوار والوصف والحبكات،وذكرت الشيدية الكثير من الأمثلة على هذه المرحلة من مثل: حمد رشيد، محمد علي البلوشي، يونس الأخزمي، يحيى سلام المنذري،سالم آل توية وغيرهم.
ثم تحدثت فاطمة الشيدية عن جيل ما بعد الألفية الثانية،حيث شهدت القصة العمانية نضجا فنيا وأسلوبيا، كما شهدت إقبالا شديدا، وحضورا بارزا لكتابها في المشهد الثقافي الداخلي والخارجي،ربطت ذلك بأن المجتمع العماني أصبح أكثر وضوحا في تياراته الثقافية، “قلّت الكتابة الذاتية المصدّرة لفعل الألم والصدمة إلا فيما يخدم فكرة النص، كما قلّت الكتابات الإنشائية التي لا تربطها فكرة، ولا تخدم غاية السرد”، ومن مجموعات هذه الفترة “حد الشوف” لسالم آل توية، “ربما لأنه رجل مهزوم” لسليمان المعمري، “أغشية الرمل” لـ محمد الرحبي، “مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل” لجوخة الحارثية، وغيرها الكثير.
ملامح القصة العمانية
انتقلت الشيدية لاحقا للحديث عن ملامح القصة العمانية قائلة:”القصة العمانية متعددة الاتجاهات والملامح والأساليب، ومن هذه الاتجاهات: شعرية القص: بين الفكرة والأسلوب، مشيرة إلى الاتجاه الذاتي أو الرومانسي، وذكرت على ذلك مثالا.. قصة “ربما لأنه.. لأنه ربما” لـ سليمان المعمري، حيث حالة من حالات القلق الإبداعي والحياتي الذي يعيشه المبدع،”النص يُقدم حالة تذمر إنسان من سلسلة الأفعال اليومية المملة حتى في يوم إجازته من الوظيفة، والنص نفسه سياق نفسي للمرسل والرسالة والمتلقي”. وأيضا ذكرت أمثلة أخرى على هذا، وهي مجموعة الخطاب المزروعي “لعنة الأمكنة”، و”لا يفل الحنين إلا الحنين”
لـ عبدالعزيز الفارسي…وغيرها من المجموعات.
بعدها تناولت الرمز والأسطورة في القص العماني، شرحت الرمزية لنا بقولها: “إظهار غير المرئي أو المعني عن طريق ما هو مرئي”. والرمز هو قوة المخيلة في صناعة عوالم سردية وشعرية أكثر خصوبة وجمالا أمام التابوهات الكثيرة (الجنس والدين والسياسة) في العالم العربي تحديدا، وذكرت على ذلك مثال نص خديجة لـ محمد اليحيائي من مجموعته “يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها”، فالنص يمثل قصة أكل الذئب لامرأة بدوية ذهبت تبحث عن نعجتها التي تأخرت على العودة إلى البيت، لكن لا يمكن للمتلقي أن يقف عند حدود هذا المعنى المباشر، وإنما يذهب باتجاه المعنى الأكثر توغلا وبعدا.
المجتمع مصنع القصة
أخذتنا الشيدية لحديث شائق عن القصة الواقعية، التي تتناول حقيقة من الواقع لا حقيقة مطلقة، بل جزءا من الحقيقة وقعت للناس في المجتمع, ولكنها تتخذ لها شكلا جديدا في اختيار الواقع بدون تفصيلات مملة، ومن أمثلة ذلك قصة “رسائل” من مجموعة “لا يفل الحنين إلا الحنين” لعبد العزيز الفارسي، حيث يُطلق الرجل زوجته برسائل نصية قصيرة، وهو أمر اجتماعي أصبح شائعا للأسف، وهو هنا ينتقد الفعل بصورة غير مباشرة، وكذلك قصة “الرجل الجاني نائم” حيث يسرد لنا حمود الشكيلي قصة الرجل الذي قتل عامل مزرعته برصاصة لأنه رآه يتسلل لإحدى غرف بيته، ولكنه لم يدافع عن نفسه سوى بكلمة “يستاهل”.. وأيضا يدخل التاريخ والسياسة ضمن لعبة القص-كما تقول الشيدية- حيث يبسط التاريخ، ويقدمه بحبكة فنية، ويدون أحداثا سياسية كبيرة وعظيمة ولكن دون أن يقدمها بشكل جاف،ومن ذلك مجموعة أحمد الزبيدي” انتحار عبيد العماني”.
باب النقاش
عندما فتح باب المداخلات والنقاشات..تساءل عميد شؤون الطلاب الدكتور بدر بن هلال العلوي، “هل استفاد الدارس العماني من الحكايات الشفهية أو تلك التي ترويها الجدات؟”، فأجابت فاطمة الشيدية: “القصة فن غربي، وعلينا أن نفرق بين القصة والحكاية، وفي عُمان توجد الكثير من الحكايات الشفهية الشعبية التي لم تنل حظها من التدوين إلى الآن، ولكن هنالك من فعل ذلك، وضمن الحكاية في نص قصصي جديد، أيضا روايتي “حفلة الموت” تقوم على حكاية “المغايبة” التي سمع بها أغلبنا.. المسألة لا تقف عند غياب تدوين الحكاية، فكم من الشعر الشعبي الذي يرويه من لا يقرأ ولا يكتب غائب عن التدوين أيضا،ويمكنه أن يذهب بغمضة عين من أيدينا بمجرد موت هذا الشيخ العجوز، أو المرأة العجوز..أتفق معك أن مشروع التدوين مشروع في غاية الأهمية، حتى وإن بدأ الآن بالتسجيل الرقمي على الأقل من أجل حفظه”.
حمود الراشدي تساءل عن عدم ظهور روح المكان في مجموعة “الذاكرة ممتلئة تقريبا” لمازن حبيب،فأغلب النصوص تدور أحداثها في الخارج.أجابت الشيدية قائلة:”قصدت المكان بمعنى أي مكان وليس المكان العماني”. وتساءل أحمد الراشدي عن الأسباب التي تقف وراء تجاوز القضايا النسوية في القصة العمانية..هل لأنّ الكاتبة ابنة مسقط، ولديها وظيفة وحياة مستقلة، بينما هنالك نساء أخريات يعشن المعاناة؟ أكدت الشيدية أن من إحدى مهام الكاتب نقد المجتمع، والمرأة إلى اليوم بحاجة إلى من يعبر عنها وعن اضطهادها. عاود أحمد الراشدي التساؤل حول انقطاع أجيال كانت تكتب منذ أيام السبعينيات، والثمانينات؟ فقالت فاطمة”أنا أيضا أبحث عن إجابة لهذا السؤال، ربما هي الإحباطات التي تختلف عن إحباطات جيلنا، وربما البعض لم يكن يتعامل مع الكتابة على أنها مشروع حياة كامل”.
الطالبة هالة الريامية تساءلت: “نشأتُ في المدينة، ولا أعرف الكثير عن الحياة في القرى، لا أعرف الكثير عن عاداتهم وتقاليدهم.. هل يعني هذا أنّ قصصي ستفتقد لروح المكان؟” قالت الشيدية:”المكان ليس هو القرية وحسب، قد يكون الشارع…الجامعة…البيت.. ما نعيشه الآن سيتحول إلى تراث بعد عشرات السنين، وهكذا هي الحياة”. ليلى النبهانية تساءلت: أيهما أفضل أن اكتب بالفصحى أم بالعامية؟ أجابت الشيدية:”هذا موضوع كبير وضخم.. موضوع الفصحى والعامية، وقد اختلفت الآراء بين من يتطرف بضرورة ذلك، أو يتطرف بالرفض، وثمة طرف ثالث يقع في المنتصف يؤيد الحوار بالعامية متى ما كان توظيف ذلك في مكانه الصحيح”.
تساءلت طالبة عن غياب أنسنة الجماد من القصة العمانية، فقالت فاطمة ذلك يتطلب اشتغالا خاصا، لا يستطيعه أي شخص، وذكرت قصة مفتاح سليمان المعمري كدليل على الأنسنة. عائشة المعمرية تساءلت عن غياب الوعظ من القصة العمانية؟ فقالت فاطمة: “الوعظ شيء، وأخذ العبرة من القصة شيء آخر.. فالقصة والشعر لم يعودا يحتملان الوعظ”، وتابع القاص سليمان المعمري الرد على نفس السؤال:”طغت القصة الوعظية فيما سبق لقلة الخبرة الكتابية، ونقص في الأدوات، وبرأيي الشخصي إذا دخل الوعظ من الباب خرج الفن من الشباك. وغياب الوعظ يحسب لصالح النص. .. ثم تساءل.. ما الفرق بين الرسالة وخطبة الجمعة إذن..ثم قال حتى إن دعاة اليوم انتبهوا لضرورة التخفف من الوعظ في القصة واستخدام أساليب جديدة في الخطاب”. وأكدت فاطمة الشيدية على أن الوعظ ارتبط بالزمن التعليمي، أما الآن فالمدرسة تعلم والإعلام يُعلم والوسائط التكنولوجية الحديثة تُعلم أيضا، فلا حاجة للوعظ عبر القصة. وقال القاص وليد النبهاني: “القصة في عمان لم تمر بتيارات الكتابة التي عرفها الغرب”، ورأى البعض أن لا ضرورة لذلك إذا كانت القصة قد واكبت آخر مستجدات تفنياتها في العالم، فليس عليها أن تبدأ من الصفر، بل من حيث انتهى الآخر، فيما ختمت فاطمة الشيدية بقولها: “نحن لا نستحدث شيء وننتظر ما يصلنا من الآخر دائما”.
محاضرة وحلقة عمل ومسابقة
ومن الجدير بالذكر أنّ الدكتور إحسان صادق اللواتي قدّم محاضرة نقدية مساء الأمس في الملتقى لمن حضر من الطلاب والمهتمين،بينما تقام الليلة حلقة عمل في كتابة القصة القصيرة قدّمها كل من سليمان المعمري وهلال البادي، وقد حدثنا المعمري عن حلقة العمل قائلا في حوار سابق: “ستتناول النصوص المشاركة والفائزة، واهتمامات الطالب الجامعي المتطلع لكتابة القصة، كما ستتناول من جهة أخرى وصفا للقصة في المشتركات العامة في كتابة القصة القصيرة في الجامعة، وسيكون المجال مفتوحا لتبادل الأسئلة والإجابات حول القصة العمانية بشكل عام، والقصة القصيرة في الجامعة بشكل خاص”، وأكد هلال البادي أنّ الجلسة ستكون ارتجالية ومفتوحة من دون تحديد محاور ثابتة وجامدة، إلا أنّها ستدور في فلك:”كيف يمكن كتابة قصة قصيرة متكاملة فنيا”.
كما أنّ اللجنة المنظمة إلى جوار ما سبق، حرصت أيضا على إقامة مسابقة قصصية لطلاب الجامعة،وذلك ضمن فعاليات الملتقى حيث شهدت إقبالا كبيرا للمشاركة فيها، وقد تمّ تشكيل لجنة تحكيم لتقييم النصوص المتقدمة تتكون من سليمان المعمري وبشرى خلفان، وقد أخبرنا المعمري “أنّ المنافسة قائمة الآن بين ما يربو على الأربعين نصا قصصيا من أكثر من كلية”.
أسئلة صغيرة جدا:
• غياب جمهور جماعة الخليل للأدب..لماذا؟
• الطالبات أكثر من الطلاب عددا، وأكثر من يطرحن الأسئلة؟
• هل من الضروري أن تحمل الكاتبة العمانية “القضايا النسوية” على عاتق نصها؟
• ما سر اختفاء كُتاب السبعينات والثمانينات عن الساحة اليوم؟
• جمع التراث الشفهي الشعري والحكائي..مهمة الكاتب أم المؤسسة؟