كيف نكسب طلابنا المفاهيم؟

د. محمد العامري

تمهيد
تتمثل وظيفتنا أساسا كمعلمين -وخصوصاً في وقتنا الحالي- في مساعدة الطلاب في ممارسة التفكير في مستوياته العليا، ونحتاج إلى تأكيد تلك الوظيفة في ظل ما كشفه بعض نتائج الدراسات والأبحاث من اتجاه المعلمين إلى تكريس جزء كبير من وقتهم في حث الطلاب على حفظ الحقائق والمعلومات بصورة تجعلهم غير قادرين على مجاوزة المستويات الدنيا من التفكير. فبعض المعلمين يكتفي بكتابة الحقائق أو المفاهيم التربوية وتعريفاتها على السبورة وتلقينها للطلاب، أو يطلب منهم مراجعتها في الكتاب المدرسي وحفظها. والسؤال الذي يبرز في هذا السياق هو: هل هذه هي الطريقة المناسبة والفعالة في إثارة الطلاب نحو ممارسة التفكير بعمق وفهم المادة العلمية وزيادة قدرتهم على استدعاء المعلومات؟ لقد كشفت نتائج الدراسات أن الطلاب يتمكنون من المادة العلمية حينما يمتلكونها وذلك بانغماسهم في عملية التعلم والتفكير بأنفسهم وأخذ زمام المبادرة في هذه العملية.
وتعد أفضل نظرية للتعلم تساعد الطلاب على اكتساب المعرفة هي تلك القائمة على تعلم المفهوم (نوفاك & وجووين، 1991). ونتيجة لذلك تم تطوير عدد من طرق التدريس التي تنسجم مع تلك النظرية، لعل من أبرزها طريقة اكتساب أو تطوير المفاهيم (Concept Attainment) التي طورها برونر (Bruner) ولا يتهول (Lighthall). إن هذه الطريقة تدفع الطلاب إلى معالجة المعلومات والقيام بأنماط من التفكير الاستقرائي. وتكمن أهميتها في أنها تساعد الطلاب على تعلم المفاهيم والتمكن من استراتيجيات اكتسابها. والذي بدوره يؤثر بدرجة كبيرة على استيعاب المحتوى العلمي والتدرب على وضع الفرضيات واختبارها. وتبرز أهمية التركيز على المفاهيم كنتيجة إلى التفجر المعرفي والتزايد الهائل في المعلومات الذي يشهده العالم، حيث يتوقع أن تزيد درجة نمو المعرفة وتنوعها في المستقبل بشكل كبير، وتعكس هذه الظاهرة استحالة الإحاطة بمجال معرفي واحد فكيف بمجالات متعددة من المعرفة قد يحتاج إليها الطلاب في حياتهم، علاوة على أن من أهم ملامح عصر العلم والتقنية أن المعرفة أصبحت تخضع لتغيير وتعديل مستمرين وتتجدد التجديدات نفسها، كما أن الانترنت -بفضل سعتها وسهولة البحث فيها في أي وقت – قد أعفتنا من تخزين الحقائق والمعلومات في أدمغتنا مما يجعل الأهمية بمكان التركيز على المفاهيم الأساسية في أية مادة علمية.
ويؤكد برونر (Bruner) على أنه من العبث معرفة كل شيء؛ غير أنه ينبغي علينا جميعاً أن نكتسب حول مفاهيم المعرفة الأساسية. فعلى سبيل المثال، ليس مطلوباً من المعلمين الاهتمام البالغ بتدريس الطلاب تواريخ حركات التغيير في العالم؛ بقدر ما يكون المطلوب هو معرفة الخلفيات التي تتسبب في إشعال وتهيئة الظروف لمثل تلك الحركات. ويقترح برونر أن استراتيجية اكتساب المفهوم ستجعل الطلبة يرون المعالم الكبيرة والأساسية من خلال التمعن في الأجزاء التفصيلية التي قد يكون من غير الضروري الاحتفاظ بها في الدماغ البشري مما يمثل عبئا عليه في ممارسة التفكير بصورة سليمة، فالطالب في وقتنا الحاضر لا يحتاج إلى حقائق ومعلومات مفككة سرعان ما تفقد معناها وقيمتها، وإنما هو بحاجة إلى تلك الأفكار والمفاهيم التي تشكل أساسا لفهم الحقائق وتطوير المعرفة ووسيلة للتفكير والفهم والتعامل مع المستجدات.


ما هو المفهوم؟
المفهوم (Concept) مصطلح يستخدم للدلالة على عدد من الأشياء أو الأحداث أو العمليات التي تشترك في مجموعة من الخصائص الأساسية. فالمفهوم عبارة عن تصنيف لحالة عامة يكون لها أمثلة متعددة: على سبيل المثال كلمة « جبل » تمثل مفهوما عاماً يصف ارتفاعا في القشرة الخارجية لسطح الأرض على هيئة كتلة صخرية ومن أمثلته جبال طويق، وجبال الحجاز، وجبال السروات.. الخ، فالمفاهيم عبارة عن تجريدات لأشياء أو أحداث واقعية. إنها بمثابة وصف مختصر لوقائع كثيرة أو هي « الصورة الذهنية الإدراكية المتشكلة بواسطة الملاحظة المباشرة لأكثر من مؤشر لمجموعة من الأشياء أو الأحداث بانتظامات معينة »، كما يمكن أن نتعرف على المفهوم من خلال وظيفته حيث يمثل قاعدة لاتخاذ قرار أو حكم نستطيع من خلال هذه القاعدة الحكم على مدى توفر مجموعة من الخصائص في الشيء، وبالتالي يمكن أن نسميه مصطلحاً.
وبصورة عملية يمكن تيسير فهم المقصود بالمفهوم عبر قيامك -أو حتى قيام الطلاب- بالنشاط الآتي:
1- أغمض عينيك، واسأل نفسك إذا كنت ترى صورة في عقلك عند سماع كلمات مألوفة من مثل: سيارة، شجرة، حاج.
2- أغمض عينيك مرة أخرى، واسأل نفسك هذه المرة عن كلمات تدل على أحداث من مثل: سفر، غرق، مذاكرة.
3- أغمض عينيك، واسأل نفسك إذا كنت ترى صورة في عقلك عند سماع بعض الكلمات غير المألوفة من مثل: الجَوْسَق، الجُوخُ، جَاش، حُجِفَ.
4- أغمض عينيك، واسأل نفسك إذا كنت ترى صورة في عقلك عندما تسمع كلمات مثل الضمائر (هو، هم، أنا) وكلمات الربط (لكن، وبالتالي، إذا)، جميع هذه الكلمات ليست مفاهيم (نوفاك& وجووين، 1991).
إن الكلمات التي تنقل إلينا معان وتمثل صورا في عقولنا هي في معظم الأحيان مفاهيم، فهي كلمات نستخدمها ونعني بها شيئاً أو حدثا تستدعي وجود صور في عقولنا ويحدد كل من (Arends 2000) و (زيتون 1999) بعض خصائص المفاهيم، وهي أنها:
1- تتكون من جزأين هما: الاسم أو الرمز، والدلالة اللفظية للمفهوم.
2- تتضمن التعميم على حالات أو مواقف كثيرة أو أفراد متعددين.
3- يتم تعلمها من خلال الأمثلة واللا أمثلة.
4- لها خصائص أساسية يشترك فيها جميع أفراد فئة المفهوم، ولها خصائص غير أساسية أو ثانوية ليس بالضرورة أن تكون في جميع أفراد فئة المفهوم.
5- تكوين المفاهيم عملية مستمرة ومتطورة.
6- المفاهيم يمكن أن تتضمن مفاهيم فرعية أخرى.
أهمية المفاهيم
تمثل المفاهيم بنية المعرفة، ومنذ الستينيات من القرن العشرين، بدأ التربويون وأساتذة الموضوعات الأكاديمية يؤكدون على أهمية المفاهيم، وأهمية تعليم بنية المادة التعليمية، وطريقة التفكير والبحث فيها. وبناء على ذلك، أعيدت صياغة الكثير من الموضوعات بحيث ضممت حول مجموعات من المفاهيم المحورية. ويرى أولينر (Oliner, 1976) أن المفاهيم هي التي يجب أن تكون المحور المنظم لمعظم المناهج الدراسية وليس الحقائق والمعلومات. ويرى ميكاليس (Michaelis, 1992) أن المفاهيم وعناقيد المفاهيم توجه الإدراك وتمكّن الإنسان من تصنيف وتقويم المعلومات، ومن تفسير الخبرة والتوصل إلى الاستنتاجات مما يمكنه من بناء مخططات عقلية (Schemes). كما يرى أن تنمية المفاهيم تسير جنباً إلى جنب مع تنمية القاعدة المعرفية لدى المتعلم، فالتفسير والمقارنة والتصنيف ثلاثة مكونات جوهرية لتنمية المفاهيم، ويضيف أن على المعلم تيسير عملية اكتساب الطلاب للمفاهيم ومراقبة عدد ودرجة صعوبة المفاهيم التي ينبغي اكتسابها بما يضمن استيعاب الطلاب لها، وتعميقها لديهم، وتجنب سوء الفهم الذي قد ينجم عن الخلط بين مجرد تذكر الكلمة التي تمثل عنوان المفهوم وفهم مضمون المفهوم وخصائصه (المخلافي 2000).
فعملية تكوين المفهوم عملية معقدة تتطلب من المعلم تهيئة البيئة التعليمية بصورة تدفع الطالب إلى إدراك العلاقات بين أشياء وحوادث منفصلة كي يكون معنى منها، فتلك الأشياء والحوادث والحقائق بوجه عام لا تقدم معنى في ذاتها وهي منفصلة، ولكن الطالب يكون معنى من خلال إدراك العلاقات فيما بينها. ويشير (Arends, 2000) إلى أن الدعم النظري والعملي يدعم أهمية التعليم والتعلم من خلال المفاهيم، ويرى أن سبب هذا الدعم يعود إلى ربط عمليات تطور واكتساب المفهوم بكيفية عمل الدماغ؛ فقد أظهرت بحوث علماء التربية من مثل بياجيه وبرونر وأوزوبيل وتابا وجاردنر وغيرهم كيفية تطور التفكير المفهومي لدى المتعلمين، وكيف أن طرقا محددة لتعليم المفهوم ذات تأثير كبير في عمليات التعلم، وقد ربط أولئك الخبراء في دراساتهم بين المفاهيم والمستويات العليا من التفكير؛ حيث إن تعلم المفهوم أكبر من تصنيف الأشياء ووضعها ضمن قوائم متميزة، كما أنها أكبر من تعلم كلمات جديدة ومسميات محددة وتطبيقها على مجموعات الأفكار والأشياء فتعلم المفهوم يعني بشكل جوهري بعمليات البناء المعرفي وتنظيم المعلومات ضمن بنية عقلية شاملة ومحددة.
ويمكن تلخيص أهمية تدريس المفاهيم في الجوانب الآتية:
1- تيسر فهم المادة العلمية وتوضحها من خلا لتجنب التركيز على التفصيلات الجزئية.
2- تحفز عملية تطور النمو الذهني وتطور مهارات التفكير.
3- تساعد الطلاب في مواجهة المشكلات والعمل على بحث الحلول لها.
4- تعد خطوة منطقية ومقدمة إلى بناء المبادئ والتعميمات.
5- يسهل استدعاءها من الطالب كما أن بقاءها يستمر لمدة طويلة لديه مقارنة بالحقائق.
استراتيجية اكتساب المفاهيم
تعد استراتيجية اكتساب المفهوم استراتيجية تعليمية غير مباشرة تتم بواسطة عمليات استكشاف (Inquiry) منظمة، وبنيت على أساس أعمال برونر (Bruner) ومن خلال هذه الطريقة يقوم الطلاب باستكشاف صفات أفراد المجموعة أو الفئة التي حددها المعلم وقدمها لهم، وللقيام بذلك يقارن الطلاب ويطابقون بين الأمثلة التي تحتوي على صفات المفهوم وتلك الأمثلة التي لا تحتوي على تلك الصفات، وقد صممت استراتيجية اكتساب المفهوم لإيضاح الأفكار ولتقديم جوانب المحتوى، ويعمل الطلبة في صياغة المفهوم من خلال الإطلاع على رسوم توضيحية أو بطاقات لكلمات أو نماذج. عندما يتوصل بعض الطلاب إلى الفكرة قبل الآخرين يطلب منهم اقتراح أمثلتهم الخاصة، في حين يحاول الطلاب الآخرون تشكيل المفهوم.
إن استراتيجية اكتساب المفهوم مناسبة جدًّا لاستخدامها في التدريس لأنها تستثير جميع قدرات التفكير، حيث يبرع الطلاب من خلال الممارسة في التعرف على العلاقات المفاهيمية. هذه الطريقة يمكن أن تستخدم في تعلم كثير من المفاهيم وفي معظم الموضوعات. لقد طور برونر هذه الاستراتيجية بحيث تجعل الطلاب يشكلون الصورة الكبيرة للمفهوم من خلال استعمال الأمثلة، وقد تكون هذه الأمثلة « أمثلة إيجابية » وقد تكون « أمثلة سلبية »، وتحتوي الأمثلة الإيجابية على خصائص المفهوم المراد تعليمه واكتسابه، وكلا الأمثلة: السلبية والإيجابية يمكن أن تعطي لجميع الطلاب في الصف على شكل مجموعات تعاونية، أو تعطي بصورة فردية، ويطلب من الطلبة اتخاذ القرار بتصنيف الأمثلة إلى أمثلة إيجابية وأمثلة سلبية من خلال معرفتهم بخصائص المفهوم.
إن الطلاب حينما يقومون بتصنيف الأشياء ضمن مجموعات فإنهم في هذه الحالة يطورون مفاهيمهم، حيث يعملون على تمييز الأشياء والحوادث عن بعضها البعض، وبتكرار الفرز والتصنيف يستطيع الطلاب تكوين مفهوم مجرد للأشياء المتشابهة مما يمكنهم من التفكير والتواصل مع الآخرين حول تلك الأشياء. فعلى سبيل المثال لنفترض أن أحد المعلمين يريد أن يدرس مفهوم المخلوقات الحية والمخلوقات غير الحية لطلاب الصف الثاني الابتدائي، فيمكن للمعلم أن يدرس هذا الموضوع بالطريقة التقليدية وذلك بتعدد خصائص كل فئة من تلك المخلوقات، كما يمكنه -أيضًا- أن يدرس ذلك بطريقة إكساب المفاهيم كما في السيناريو الآتي:
المعلم: يكتب أسماء مجموعة من المخلوقات على السبورة أو يعرض صورها في بطاقات صغيرة، ويكتب أمامها أو يذكر كلمة (نعم) أو (لا) على النحو الآتي:
القلم لا
الكتاب لا
الخروف نعم
سيارة لا
الجمل نعم
الإنسان لا
ويذكر للطلاب أن لديه مزيداً من أسماء المخلوقات المختلفة أو صورها، ويمكن أن يقولوا لبعضها (نعم)، بينما يمكن أن يقولوا لبعضها الآخر (لا).
الطلاب: يقومون بالتخمين (وضع الفرضيات حول طبيعة كل مجموعة) من خلال ملاحظة العلاقة بين صفات الأمثلة التي أشير إليها (بنعم) وتلك التي أشير إليها (بلا)، ويوصى أن يعمل الطلاب في هذه المرحلة بصورة فردية كي يطوروا فرضياتهم.
المعلم: يتحدى الطلاب في معرفة ما يدور في ذهنه ولماذا هو يضع مرة (نعم) ومرة أخرى (لا)، ويعطيهم الفرصة في اختبار فرضياتهم بتقديم أمثلة جديدة للمجموعتين على النحو التالي:
المسمار لا
القط نعم
الحجر لا
الطلاب: يتمعن الطلاب في الأسماء لفترة من الوقت في محاولة لاكتشاف العلاقات بين المخلوقات التي يشار إليها (بنعم)، والمخلوقات التي يشار إليها (بلا). ويقوم الطلاب باختبار فرضياتهم.
المعلم: أتوقع أنكم وصلتم إلى ما أفكر فيه، سوف أعطيكم أمثلة وحددوا ما إذا كان (نعم) أو (لا).
الحماة ….
الحقيبة ….
النملة ….
القطار ….
المعلم: إذا وجد أن الطلاب أجابوا بصورة صحيحة، يطلب من بعضهم تسمية بعض المخلوقات الجديدة، ويطلب من الآخرين تحديد إذا ما كانت أمثلة (نعم) أو أمثلة (لا). إذا لاحظ أن الطلاب لم يتوصلوا إلى الإجابات الصحيحة فيستمر في تقديم مجموعة أخرى من الأمثلة.
المعلم: في النهاية يطلب من الطلاب توضيح كيف توصلوا إلى الإجابات الصحيحة. وبذا يستطيع الطلاب أن يحددوا بعض خصائص المخلوقات الحية والمخلوقات غير الحية.
متى نستخدم طريقة اكتساب المفاهيم؟
يفترض أن يستخدم المعلم هذه الطريقة حينما يهدف إلى مساعدة الطلاب في تطوير قدراتهم الفكرية الاستقرائية في الوصول إلى تحديد مفهوم معين ذي سمات وميزات وضاحة وتطوير تعريف له. إن هذه الطريقة هي -في الواقع- بديل للطريقة التقليدية المعهودة والمتمثلة في عرض التعريف مباشرة للطلاب، ويمكن استخدام هذه الطريقة في مدى واسع من المواد والموضوعات، حيث يمكن تدريس الطلاب بهذه الطريقة، على سبيل المثال، حينما يكون الموضوع يتناول أقسام الكلام، وأنواع الجمل، وتصنيف المخلوقات الحية، ومفاهيم الدراسات الاجتماعية، والأشكال الهندسية، وأنواع الأرقام، وأنواع الأغذية، وأنواع العضلات وغيرها من الموضوعات والمواد.
الأسس النظرية لطريقة اكتساب المفاهيم
يمكن تحديد الأسس النظرية التي تدعم استراتيجية اكتساب المفهوم في النقاط الآتية:
1- تبنى على نظرية التعلم المعرفي التي تؤكد على استثمار ما لدى المتعلم من خلفيات معرفية وأطر تصورية.
2- تضع الطلاب في موقف المتعلم النشط.
3- تؤكد التفاعل بين المعلم والطلاب وبين الطلاب مع بعضهم.
4- المعلم يقوم بدور المرشد والموجه لنشاط المتعلم بدلاً من التوضيح المباشر والمجرد.
5- أهمية الربط بين التعلم الجديد ومعرفة الطلاب العامة ومفاهيمهم السابقة.
6- تؤكد على أهمية تشكيل الاستنتاجات بناء على الملاحظة والاستكشاف، وتطوير الفرضيات واختبار الحقائق.
إن عملية اكتساب المفهوم وتعلمه ترتبط عند برونر بعملية التفكير التي أطلق عليها التصنيف، ويعني به تلك العملية الفكرية التي تتضمن عمليات تحديد الحوادث أو إدخالها في مجموعات أو فئات أقل من خلال استخدام معايير أو خصائص تحدد سلفا، ويتضمن هذا التصنيف عنصرين رئيسيين هما: تشكيل المفهوم واكتساب المفهوم؛ حيث يمثل تشكيل المفهوم الخطوة الأولى لاكتسابه، ويحدد برونر خمسة عناصر أساسية في اكتساب المفهوم هي:
1- اسم المفهوم: وهو كلمة يتم تقديمها لترمز لفئة معينة.
2- الأمثلة: وهي التي تشير إلى الأمثلة المنتمية للمفهوم، والأمثلة غير المنتمية للمفهوم، ويعد التمييز بين الأمثلة واللا أمثلة جزءا مهما جدًّا في تعرف المفهوم كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.
3- الخصائص الأساسية: وتشير إلى الصفات والمظاهر والخصائص التي تمكن الطالب من وضع الأمثلة ضمن فئة معينة أو مجموعة محددة.
4- القيمة المميزة: وتشير إلى صفة المفهوم أو خاصيته التي يتم على أساسها التمييز بين مفهوم وآخر، وهذه العملية تسهل تدريس المفهوم.
5- القاعدة: وتمثل التعريف أو العبارة التي توضح الخصائص الأساسية للمفهوم وتعكس القاعدة الصحيحة له، والاستخدام الناجح للعناصر الأخرى لذلك المفهوم من أمثلة ولا أمثلة وخصائص أساسية وغير أساسية، (فمثلاً يعرف المثلث بأنه شكل مغلق له ثلاثة جوانب)، وتنبثق القاعدة بشكل طبيعي في نهاية اكتساب المفهوم، ويستخدم المعلم القاعدة كأداة يلخص بها الدارسون نهاية بحثهم عن الخصائص المميزة (القيسي 2001).
أهمية طريقة اكتساب المفاهيم
أشار أريندس Arends (2000) إلى أن من فوائد استراتيجية اكتساب المفهوم أنها:
1- تساعد في إيجاد الروابط بين ما يعرفه الطلاب وما سيتعلمونه.
2- تعلم الطلاب كيف يمكن فحص المفهوم واختباره من أبعاد مختلفة.
3- تعين في ترتيب كافة المعلومات ذات العلاقة.
4- توسع معرفة الطلاب للمفاهيم من خلال أكثر من مثال.
5- تحسن تعلم الطلاب وتزيد من احتفاظهم بالمعلومات.
التدريس باستخدام استراتيجية اكتساب المفهوم
ينبغي أن يتضح منذ البداية أن التعلم وفق استراتيجية اكتساب المفهوم يهدف بدرجة أولى إلى مساعدة المتعلمين على الوصول إلى المفاهيم بإعطائهم الفرصة للبحث والاستكشاف واختبار الفرضيات. فليس الهدف الحصول على المعرفة فحسب بقدر ما هو الحصول عليها بطريقة تنمي قدرات المتعلمين وإمكاناتهم العقلية وتستثير دوافعهم للاستطلاع ورغبتهم في الحصول على المعرفة. ويؤكد برونر على ذلك بقوله « إننا لا نعلم الموضوع من أجل إنتاج مكتبات صغيرة عنه، بل من أجل مساعدة المتعلمين على التفكير بطريقة موضوعية وليحاكموا الأمور كما يحاكمها الباحث، وليشاركوا في عملية التوصل للمعرفة؛ فالمعرفة عملية وليست نتاجا فقط » (بلقيس 1988).
إن هذه الطريقة تنطوي على عدد من العمليات، ينبغي أن يقوم بها المعلم، وهي على النحو الآتي:
أولاً: التخطيط
1- اختيار المفاهيم الأساسية: يجب تحديد المفاهيم التي سيتعلمها الطلاب، وكيفية تسلسلها خلال الدرس أو الوحدة الدراسية. وتعد معرفة الطلاب السابقة محدداً أساسياً ومهما في اختيار المفاهيم التي سيتم تعليمها وكيفية تسلسلها، وفي هاذ الصدد يذكر (Brewer & Treyens 1981) « إن تنشيط التعلم السابق هو عملية جوهرية في كل أنواع التعلم لأن خلفياتنا المعرفية ستكون مؤثرة على ما سندركه حول المفاهيم الحاضرة ».
2- تحديد خصائص المفهوم: يتضمن درس تعليم المفاهيم عدة مكونات؛ منها اسم المفهوم وتعريفه، وصفات المفهوم الرئيسة والثانوية.
3- اختيار الأمثلة: يجب تحديد الأمثلة التي تنتمي للمفهوم والأمثلة التي لا تنتمي للمفهوم (تسمى لأمثلة) ويستند في هذا الاختيار على خبرة الطلاب ومستوى نضجهم، أو ما عبرنا عنه سابقًا بالمعرفة السابقة. وهناك بعض الإرشادات المهمة عند تحديد الأمثلة المنتمية والأمثلة غير المنتمية.
أ- يتوقف تحديد الأمثلة وعددها على معرفة المعلم لطلابه وخبراتهم السابقة.
ب- الحرص على انتقاء الأمثلة التي تصور خصائص المفهوم بشكل واضح.
ج- وضع الأمثلة ضمن سياق واضح حتى تكون ذات معنى.
د – تسلسل الأمثلة أساسي جدًّا من اجل اختبار الفرضيات.
هـ- الأمثلة واللا أمثلة لا يشترط تساويها، بل يعود ذلك لتقدير المعلم وأهداف الدرس وخلفيات الطلاب المعرفية.
و- في الصفوف الأولية ينبغي عدم تشتيت التلاميذ كثيرًا من خلال الأمثلة السلبية.
ز- اختيار طريقة التقديم ووسيط العرض مهم جدًّا في إدراك الطلاب للأمثلة، فقد يكون وسيط العرض صورة أو رسم تخطيطي أو تسجيل صوتي، ويعود اختيار الوسيط المناسب إلى مستوى المتعلمين وبيئة الصف ومستوى المفهوم، ولعل من الوسائط الشائعة وخصوصاً للطلاب في صفوف الدراسة الدنيا هي الصورة، فالصورة كما يقول المثل القديم « الصورة تساوي آلاف الكلمات »، واستخدام الصورة في تلك الصفوف تجسد المفاهيم المجردة التي تبدو لهم وذلك لاستيعابها.
ثانيًا: عرض الدرس
1- يبين المعلم إجراءات الطريقة للطلاب بوضوح وذلك باستقطاع جزء من الوقت لشرح الخطوات الأساسية في الدرس.
2- يقدم المعلم الأمثلة الإيجابية والأمثلة السلبية (اللا أمثلة) مرة واحدة، أو يقدم جميع الأمثلة دون الإشارة إلى أنها أمثلة سلبية أو أمثلة إيجابية ويقومون بتصنيفها.
إرشادات عامة لإستراتيجية اكتساب المفهوم
1- تعريف المفهوم يسهل تعلم المفهوم:
يتضمن التعريف الجيد للمفهوم أي قواعد ذات علاقة بالمفهوم، ويكون تعريف المفهوم أكثر فعالية إذا احتوى على بعض الصفات المألوفة للطلاب.
2- تساعد الأمثلة الإيجابية المتعددة والمتنوعة تصوير المفهوم:
المفتاح الرئيس في تطوير المفاهيم تقديم الأمثلة، وينبغي أن تكون بسيطة وذات علاقة واضحة بالتعريف، وحتى يكتسب الطلاب أساسيات المفهوم يجب أن يكون هناك نوع من التحدي من خلال بعض الأمثلة الإيجابية غير واضحة العلاقة بشكل كامل، ويجب كذلك أن يواجه الطلاب مدى واسعا من الأمثلة.
3- الأمثلة السلبية تفيد في توضيح المفهوم:
الأمثلة السلبية ضرورية لتزويد الطلاب بحدود المفهوم.
4- الأمثلة الإيجابية مقابل الأمثلة السلبية:
تكتسب المفاهيم بشكل أفضل من خلال استخدام الأمثلة الإيجابية، لكن الاكتساب الدقيق للمفهوم يتم فقط من خلال استعمال الأمثلة السلبية والإيجابية.
5- التتابع في تقديم الأمثلة مقابل تقديمها في الوقت نفسه:
يتم مواجهة المفاهيم في الطبيعة بشكل متتابع، لكن تقديم الأمثلة الإيجابية والسلبية في الوقت نفسه يسهل اكتساب المفاهيم وتطويرها، حيث يتيح تقديمها في الوقت نفسه المقارنة والفهم الأعمق.
6- الأمثلة الإيجابية والسلبية أكثر فعالية عند تقديمها في الوقت نفسه.
يتم تعلم المفاهيم بسهولة أكثر عندما تقدم للطلاب المفاهيم الإيجابية والسلبية في الوقت نفسه لمقارنة وجود الخصائص الرئيسة وغيابها.
7- الاستمرار في استخدام النماذج والمعينات البصرية:
تزيد الصورة ثبات المعلومات وتثير علاقات غير موجودة في الوصف النصي للمفهوم، وبذلك تعمل على اكتساب المفهوم الذي يتم تدريسه، وعندما يتم استخدام المفاهيم القديمة المعروفة للطلاب كنماذج فإن ذلك يسهل تعلم المفاهيم الجديدة.
8- تقويم اكتساب الطلاب للمفهوم من خلال تصنيف الأمثلة الجديدة:
قدرة الطلاب على تصنيف الأمثلة الإيجابية والسلبية الجديدة سيكون بمثابة الدليل والمرشد على اكتساب الطلاب للمفهوم، وهذا يضفي مزيداً من الحدود على وحدة المفهوم وإتقان الحكم على ما هو جزء من المفهوم وما هو ليس بجزء منه.
9- تشجيع الطلاب على توليد أمثلتهم الخاصة وتطبيقات المفهوم:
يسهم توليد الطلاب للأمثلة الخاصة بالمزيد من الاستحواذ على المفهوم، كما أنه يزود المعلم بمدى فهم الطلاب للمفهوم واكتسابهم له.
10- إبراز واضح لمميزات المفهوم:
عندما تبرز المميزات بشكل واضح فإن ذلك مدعاة لسهولة تعلم المفهوم، لكن تحدث المشكلة عندما تكون المميزات التي تم إبرازها ليست هي في الحقيقة المميزات الحاسمة، وذلك يؤدي إلى التصنيف الساذج للمفهوم.
11- عدد المميزات غير المتعلقة بالمفهوم:
الإكثار من عدد المميزات الإيجابية الثانوية بالمفهوم تجعل تعلمه أكثر صعوبة، كما أن زيادة عدد المميزات غير ذات العلاقة يشوش إدراك المميزات الأساسية والبارزة في المفهوم.
12- مدى تعقيد القواعد:
القواعد التي تستخدم لتطوير المفهوم ذات تأثير على اكتسابه، فالقواعد البسيطة هي الأسهل لتعلم المفهوم، ثم تليها القواعد الرابطة، الفاصلة، العلائقية، على التوالي.
دور المعلم والطالب في استراتيجية اكتساب المفهوم

  • دور المعلم
    1- أوجد بيئة يشعر فيها الطلاب بالحرية للتفكير والتخمين دون خشية النقد والسخرية.
    2- وضح وصور بالأمثلة كيفية عمل النموذج وكيفية توجيه عمليات التفكير ووضع الفرضيات وتحليلها.
    3- شجع الطلاب على أن يذكروا أفكارهم كفرضيات وليس كملاحظات ذهنية.
    4- ساعد الطلاب على توجيه تفكيرهم وكيف يقرون عندما تكون الفرضيات مقبولة أو غير مقبولة.
    5- اطلب من الطلاب توضيح لماذا يقبلون أو يرفضون الفرضيات.
  • دور الطالب:
    1- اقتراح الفرضيات.
    2- قبول أو تعديل أو رفض الفرضيات.
    3- تحديد الفرضيات الصحيحة وعزلها.
    الصعوبات في اكتساب المفاهيم
    تشير بعض نتائج الدراسات والأبحاث التربوية إلى وجود بعض الصعوبات في تعلم المفاهيم واكتسابها، ومن بين تلك الصعوبات ما ذكره زيتون (1999)، وهي:
    1- طبيعة المفهوم: ويتمثل في مدى فهم المتعلم للمفاهيم المجردة أو المفاهيم المعقدة أو المفاهيم ذات المثال الواحد.
    2- الخلط في معنى المفهوم أو في الدلالة اللفظية لبعض المفاهيم؛ خاصة المفاهيم التي تستخدم كمصطلحات علمية وكلغة محكية بين الناس.
    3- النقص في خلفية الطالب حول المتطلبات السابقة لإدراك بعض المفاهيم.
    4- النقص في التعريف أو في الدلالة اللفظية للمفهوم بحيث يتم الاقتصار على خاصية واحدة لا تمثل المفهوم بشكل صحيح.
    5- الخلط بين المفاهيم المتقاربة في الألفاظ، مثل الخلط بين الوزن الذري والعدد الذري.
    6- الخلط بين المفاهيم المتقابلة في الألفاظ، مثل نباتات ذوات الفلقتين، ونباتات ذوات الفلقة الواحدة.
    7- التسرع في التعميم بحيث يتم الاعتماد على إحدى الصفات الموجودة في كل الأفراد المنتمية للمفهوم وتعميمها على عناصر أو أفراد خارج المفهوم الأصلي، مثل اعتبار كل حيوان له أجنحة طيرا، فيضيف الطلاب الحشرات والخفاش على سبيل المثال مع الطيور.

المراجع

عايش زيتون (1999). أساليب تدريس العلوم، الأردن، دار الشروق.
بخيت القيسي (2001). أثر خرائط المفاهيم في تحصيل طلبة المرحلة الأساسية وتفكيرهم الناقد في الرياضيات، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد.
محمد المخلافي & حمد السالمي. (2000). مدى اكتساب طلبة الصف الثالث الإعدادي للمفاهيم المتضمنة في كتاب التاريخ المقرر عليهم بسلطنة عمان، مجلة جامعة الإمارات، ع 18.
أحمد بلقيس. (1988). نماذج مختارة للتعليم والتعلم، دائرة التربية والتلعيم، الأونروا – اليونسكو، عمان، الأردن.
هوارد جاردنر. (2001). العقل غير المدرسي، « مترجم »، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، المملكة العربية السعودية.
جوزف نوفاك& بوب جووين (1995). تعلم كيف تتعلم « مترجم »، أحمد الصفدي وإبراهيم الشافعي، المملكة العربية السعودية: جامعة الملك سعود.
Eggen, P.D. & Kauchak, D.P. (2001). Strategies for Teachers: Teaching Content and Thinking Skills. Allyn & Bacon: Needham Heights, Massachusetts.
Frayer, D. A., Fredrick, W. C., & Klausmeier, H. J. (1969). A schema for testing the level of concept mastery. (Working Paper No. 16) Madison: Wisconsin Research and Development Center for Cognitive Learning.
Joyce, B., & Weil, M. (2000). Models of Teaching .(6th ed.). Boston: Allyn & Bacon.
Arends, R.L (2000). Learning to Teach (5th Ed). McGraw-Hill Higher.
Armstrong, T. (1998). Jerome Bruner: Concept attainment [Internet]. Retrieved December 2001,2001, from the World Wide Web: http://ivc.uidaho.edu/mod/mode1s/bruner/

Image