حوارات في الإبداع والتغيير

الزمان: تكشف الحوارات الجادة والرصينة عن جوانب مهمة ( ربما فيها ما هو خفي لم يكشف من قبل ) من حياة الشخصيات التي يتم التحاور معها وعن الأفكار والآراء التي يحملونها ، فتصبح بالتالي وثائق يمكن توظيفها عند استقراء سيرهذه الشخصيات. ويفترض بالمحاور أن يكون على المام واف بجوانب المسيرة الفكرية والثقافية لمن يحاورهم مع ضرورة الاطلاع على منجزهم الابداعي بما يؤهله للقيام بمهمته على أفضل وجه . ويقدم كتاب ” التنوع الثقافي : حوارات في الثقافة والابداع ” للقاص والروائي والناقد حسب الله يحيى نموذحا ً لهذا النمط من الحوارات .

صدر هذا الكتاب عن دار الثقافة والنشر الكردية في وزارة الثقافة ويقع في 320 صفحة من القطع الكبير ويضم حوارات مع تسع عشرة شخصية ثقافية عراقية وأربع وعشرين شخصية عربية وشخصيتين عالميتين وتميزبتعدد اهتمامات هذه الشخصيات وتنوعها بين الدراسات الفكرية والاجتماعية والمسرح والسرد والشعر والفن التشكيلي . ولكثرة عدد الذين تم التحاور معهم فإن المجال لا يتسع للتوقف عند كل الحوارات لذلك سنتوقف في هذه القراءة عند نماذج منها من دون أن يُغني ذلك بالتأكيد عن العودة إلى الكتاب .

يُستهل الكتاب بحوار مع الدكتور علي الوردي بما عرف عن أفكاره وآرائه من إثارة للجدل وهو ما تجلى في هذا الحوار أيضا ً . فهو يفصح هنا عن تمرده على النحو العربي الذي يقول عنه ان قواعده ” صعبة ومعقدة جدا ً وهي تعد أشد تعقيدا ً من قواعد أي نحو في أية لغة في العالم وقد أصبح تيسير هذه القواعد وتقليصها ضرورية حضارية ملحّة ” (ص 7 ) . وهو يبرر كثرة الأخطاء النحوية في كتاباته ( وهو ما يتعمد القيام به أحيانا ً كما يقول ) بأن ما يهم هو عرض الرأي بوضوح دون الالتزام حرفيا ًبالقواعد النحوية التي قد تؤدي إلى التباس المعنى على القارىء في بعض الأحيان أو غموضه ، وهو تبرير قد لا يتفق معه كثيرون ولاسيما من الذين يتمسكون بضرورة الحفاظ على سلامة اللغة العربية . وثمة اشارات في الحوار إلى موضوعة الصراع بين القديم والجديد أو ما اصطلح عليه ثنائية البداوة والحضارة مع التأكيد على ان هذا الصراع موجود في كل المجتمعات فضلا ً على استعراض تطوره في العراق .

كان فؤاد التكرلي يميل إلى التكثيف والاختصار في ردوده في الحوارات التي أجريت معه. وقد حدث هذا معي شخصيا ً عندما حاورته لجريدة الزمان قبل رحيله ببضع سنوات . وفي هذا الكتاب حوار يندرج في نسق الحوارات التي عُرف بها حتى ان بعض الأسئلة الموجهة اليه كانت أطول من أجوبته عليها. يشير المحاور إلى ان التكرلي هادىء بطبعه قليل الحديث عن نفسه زاهد بتسليط الضوء عليه، همّه ابداعه وانسانيته . ولعل هذا هو سبب عزوفه عن الحوارات المطولة واكتفائه بردود تبدو مثل رؤوس أقلام لا تعطي معلومات شافية . يقول التكرلي عن سبب اهتمامه بالكتابة ” أنا أكتب لأنني أكتب أما الأهداف التي أردت ايصالها إلى القارىء فهي ليست أهدافا ً تعليمية أو سياسية ولا تربوية ومن الصعوبة أن تقول عنها انها فلسفية ” ( ص 17 ) وهو رأي قد يتعارض مع رأي الذين يؤمنون بتعدد وظائف الابداع .

ومن السرد إلى الشعر حيث نجد الحوار الذي أجري مع الشاعر الرائد بلند الحيدري وقد جاء بعنوان ( الشعر والحضارة .. الشعر والواقع ) يفلسف الحيدري رؤيته فيه بقوله ” كانسان أقوم بين الماضي والمستقبل في نقطة الحاضر المتأزم . علاقتي مع نفسي غير رضية لأنني أتأملها من خلال الآخرين . لا أحلم لأنني صيّرت أحلامي هدفا ً أسعى اليه في شعري . أقوم واقعا ً آخر قد لا يستطيع الكثيرون أن يوصلوا بيني وبينه . في الواقع أنا أتحرك وعيا ً وتصميما ً وارادة وأضع المسافة التي بيني وبين الأشياء . أما في شعري فأنا أتناقض وأنا حوار مستمر ولا أعرف من أين يبدأ هذا الصوت وأين ينتهي ” ( ص 29 ) . ويكشف هذا الحوار الغني بالتفاصيل والآراء ان الحيدري كتب القصة والنقد الأدبي والفني إلى جانب الشعر . ويشير المحاور إلى انه بدأ الحوار مع الحيدري في العام 1972 واستكمله في العام 1978 ولم تتح له فرصة نشره بسبب الحظر الذي كان قد فُرض على الشاعر ثم بسبب غياب مسوداته حتى عثر عليها بعد رحيل الشاعر.

تغيير الواقع

وتحت عنوان ” المعرفة تغيير في الذات، تغيير في الواقع ” جاء الحوار مع عزيز السيد جاسم ، وهو عنوان استقاه المحاور من رد السيد جاسم على سؤال بشأن حدود معرفته التخصصية فجاء جوابه عنه ان ” علاقة المعرفة بالواقع هي علاقة مغيرة ، بمعنى انها ثورية ، خلاقة تطرح أهدافا ً عميقة . وتتولى المعرفة عملية التغيير بالاتجاهين المترابطين : تغيير الذات وتغيير الواقع وإغناء ذلك الترابط اغناء ً معرفيا ً وتطبيقيا ً. ومن خلال هدفية وغاية المعرفة ( هدفية انسانية ، وطنية ، قومية ) يكون للمعرفة بعدها التخصصي وكذلك بعدها الموسوعي ” ( ص 21) . وهو يمر بالقارىء بمراحل تطور علاقته هو شخصيا ً بالمعرفة ، وبالعلاقة بين الأدب والأيديولوجيا وفيما يتعلق بمسألة تسييس الابداع يقول ” ان الفن والأدب يستوعبان السياسة ويهضمانها هضما ً ايجابيا ً تنجم عنه محصلات انسانية عالية . غير ان ذلك لا يتم بالاخضاع أو بالتوظيف الاستخدامي المتكلف . انه يتم عبر الفعاليات الابداعية الحرة المتجاوبة في اطار وحدة الشرط الانساني الملتزم والحر ” ( 27 ) .

وعُرف الدكتور نوري جعفر باهتمامه بموضوعات التربية وعلم النفس وهي مجال تخصصه الأكاديمي وقد ألّف وترجم العديد من الكتب فيه . من بين ما يقوله في حواره ” ان هناك طائفة جديدة من الأمراض الجسدية والاجتماعية التي ينفرد بها الانسان المعاصر يطلق عليها ( أمراض الحضارة ) بمعنى الأمراض الناجمة عن الحضارة الحديثة كالادمان وتعاطي المخدرات والعصابات المقترن وجودها بالارهاب الدولي والاضطرابات العصبية والانفعالية الحادة ، وهي ظواهر مستعصية العلاج ” ( ص 53 ) . وهو يأخذ على المجتمعات المتخلفة انها أخذت تتشبث بكل ما هو سلبي في الحضارة الغربية مع احتفاظها بما هو سلبي في تقاليدها الاجتماعية .

لا يمكن هنا المرور بعجالة على كل الآراء القيمة التي طرحها في هذا الحوار ، مثلما لا يكفي التوقف عند هذه الاسماء الأربعة بالتأكيد . ففي الكتاب حوارات مع أسماء بارزة مثل يوسف العاني ومحمد عارف ومحمد مهر الدين والدكتور صالح أحمد العلي وقاسم محمد وغيرها ، تقدم تغطية واسعة للمشهد الثقافي العراقي من خلال الآراء والأفكار التي طُرحت في الحوارات التي أجريت معها . ويقدّم الكتاب حوارات مع تشكيلة مهمة من المبدعين العرب حرص المحاور ان يختارها من دول عربية مختلفة رغبة ً منه في تقديم رؤية موسعة لتجليات الفكر العربي .

فمن عبدالله الغذامي إلى لطفي الخولي فجبرا إبراهيم جبرا وسليمان العيسى والطيب صالح وسعد الدين وهبة وأدوار الخراط ويوسف القعيد ومحمد شكري ومحمد زفزاف ( في حوار مشترك أحراه المحاور معهما ) . أربع وعشرون حوارا ً غنيا ً بالتفاصيل ، أجراها حسب الله يحيى باختيار ينم عن المام واسع بمعطيات الثقافة في البلدان العربية المختلفة . فالدكتور عبد الله الغذامي، على سبيل المثال ، يتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة برؤية فكرية واضحة ويقول ” ان مشروع ما بعد الحداثة هو مشروع في الحداثة نفسها . هو سؤال في الحداثة ، وهو في الوقت ذاته نفد للحداثة ….. وسؤال ما بعد الحداثة هو مشروع في النقد الذاتي للحداثة يجربه الحداثويون أنفسهم في مساءلة منجزهم وفي السعي لتحريكه إلى آفاق أشمل وأبعد ” ( ص 167 ) . كما يمر الحوار بالعولمة ورأي الغذامي فيها والمخاطر التي يمكن أن تكمن في التعامل السلبي معها .

ويكاد الحوار مع جبرا إبراهيم جبرا يقتصر على شكسبيرمن خلال كتاب ” شكسبير معاصرنا ” الذي ترجمه عن يان كوت، مع ان حبرا يتميز بتعدد وتنوع الاهتمامات إذ يجمع بين الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي والنقد إلى جانب الترجمة . يقول جبرا في الحوار ان ” الشخصيات المتفردة عند شكسبير وحتى الملوك منها والامراء انما تمثل تكثيف الشخصية الانسانية وتصعيدها إلى حيث تصبح ذات بعد بحيث لا تمثل نفسها فقط وانما تمثل مدارج متنوعة من الناس وتجمع فيما بينها شتات البشرية بشتى طرقها ومكانتها في الحياة “( ص 177 ) . هذا الحواريقدم سياحة في فكر شكسبير من خلال التوقف عند بعض مسرحياته .أما الشاعر الكبير سليمان العيسى الذي رحل مؤخرا ً فقد كرّس شعره للطفولة .

انه يقول في الحوار معه ” كل ما كتبته في حياتي السابقة يحمل نفحة من نفحات الطفولة في رأيي . والطفولة التي أعنيها هي البراءة والعفوية . اني أفهم الثورة بمعنى مرادف للصدق والبراءة ، والشعر الثوري لابد أن يعود دائما ً إلى ينابيع الطفولة . أما بدايتي الجديدة في الكتابة للأطفال فقد كانت بعد نكسة حزيران عام 1967 ، ذلك انني شعرت بالاختناق بعد مأساة حزيران كما شعر كل عربي ” ( ص 195 ) .وهو يبرر حرصه على الكتابة للأطفال برغبته في ملء الفراغ الموجود في هذا النوع من الشعر عربيا ً .

ويقول الطيب صالح ” انني أدخل إلى العمل الابداعي بافتراضات عقلية أو فلسفية . فلا أريد أن أمتع القارىء أو أسلبه، أريده أن يفكر وأظن في النهاية ان القيمة لابد من توفرها …. في الرواية أنطلق من الايحاء وصولا ً إلى الفكر ” ( ص 210 ) . ويتوقف الحوار طويلا ً بعض الشيء عند روايته ” موسم الهجرة إلى الشمال ” مع الإحالة الى المرجعيات المحتملة لهذه الرواية والاشارة إلى ” قنديل أم هاشم ” ليحيى حقي و ” الحي الغربي ” لسهيل ادريس و” عطيل ” شكسبير، فينفي هو أن تلتقي روايته بهذه الأعمال . ويتميز الحوار مع أدوار الخراط بكونه فكريا ً وقد جاء تحت عنوان ” الشك المنهجي في الكتابة ” .

ومن أبرز الأفكار فيه ٌوله ردا ً على سؤال المحاور عن الدور الذي يمكن للقصة والأدب بشكل عام أن يلعبه في عصر منشغل بالعلوم والنظريات والثورات قوله في رد طويل ” طالما أرّق هذا السؤال أذهان المشتغلين بالأدب والفن بصفة عامة ، في هذه الحقبة بالذات حيث تتفكك القيم التقليدية وتهيمن العزلة بين الفرد والمجتمع. ان الأدب لم تعد له فعالية حقيقية ، على العكس مما كانت عليه الحال عندما كان الفنان ملتحما ً التحاما ً عضويا ًبينه وبين مجتمعه حتى لا تكاد تعرف له اسما ً لأن اسمه الفردي ليس مهما ً لا عنده ولا عند غيره ” ( ص 228 ) . ويتوقف عند تعريفه للأدب ووظائفه مع المرور بتجربة عمله في مجلة اللوتس .

ويختار المحاور شخصيتي جاك بيرك وألان روب غرييه فيقدم حوارا ً مع الأول جاء بعنوان ” ألتاريخ .. أزمة قائمة على جدلية المعرفة “حاول فيه أن يقوم بجولة في فكر هذا المؤرخ الفذ الذي اهتم بتاريخ العرب اهتماما ً خاصا ً . ومن أفكاره في هذا الحوار ان ” الحضارة العربية والاسلامية حضارة كلاسية (وتعني عنده التحضر بوعي ) غنية.. تتحاضر مع الحضارة المتوسطة وتقف معها وعلى قدر كبير من المساواة ” ( ص 297 ) و ” الغرب أخذوا من العرب خيرات حضارية ، والعرب يأخذون الآن التمدن الصناعي بما فيه من مزايا وعيوب ” (ص 300 )

ويختتم الكتاب بحوار مع ألان روب غرييه جاء بعنوان ” أنا أضع القارىء في حالة ارتباك ) يعترف فيه ان تكوينه لم يكن تكويناً أدبيا ً فهو في الأصل مهندس بايولوجي وانه كرجل علمي يرى ان العلم شيىء مخترع وان العلم بالنسبة له هو الانتقال إلى آفاق أبعد من العلوم . نعيد القول ان هذه القراءة لا تفي الكتاب حقه و ان النماذج التي مررنا بها لا تغني عن قراءته والتعرف على جوانب مهمة من سير هذه الشخصيات !

ناطق خلوصي

Image

آخر الإضافات

خطواتي نحو المستقبل

خطواتي نحو المستقبل

4 نوفمبر، 2024011